الليل

لقد انتهى ما بين الشاعر و(بيضة الخدر) وربما عادت إلى خدرها وبقي وحده على الكثيب يتملى الليل ذلك المجهول الأعظم الذي وقف عنده الأدباء والفلاسفة متأملين. وكأني بامرئ القيس بعد أن انتهى من فعل الحب مع عشيقته، دفع ذلك الشوق العارم إلى المرأة الذي تلاه هذا السكون الشامل إلى أن يتأمل الحياة وربط بين السكون الذي يحسه في نفسه وبين سكون الليل، بين وحشته ووحشة الليل، بين الحياة التي تنبض في عروقه والنجوم الحية النابضة في سديم الليل، أو ربما أحس امرؤ القيس بكذبته البلقاء مع (بيضة الخدر) وأدرك أنه يكذب على نفسه قبل أن يكذب على الآخرين مفاخراً، ودفعه هذا الإحساس بالجدب وهو في جوف الليل إلى تأمل الليل، فأثار أشجانه وهمومه وخوفه من المجهول. إن العلاقة بين ذكرياته مع النساء وبين الليل علاقة نفسية لأنهما معاً يشغلان تفكير الشاعر، ولأنهما معاً من صورة الحياة البدوية التي يحياها الشاعر وتتوارد على تفكيره في قوة وعنف. فكما أن المرأة رمز للحياة والاطمئنان والسعادة، فكذلك الليل رمز للوحشة والرهبة والخوف، وكما يتوالى صراع الموت والحياة في المرأة، فهي الحياة عند إقبالها، وتوالد الوحشة والهم والحزن عند أدبارها أو صرمها حبل الود، فكذلك الليل هو الوحشة والخوف والموت عند إقباله وهو الحياة والأمل والسعادة عند أدباره وانبلاج فجره:

علي بأنواع الهموم ليبتلي

وليل كموج البحر أرخى سدوله

وأردف أعجازاً وناء بكلكل

فقلت له لما تمطى بصلبه

بصبح وما الإصباح منك بأمثل

ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي

بكل مغار الفتل شدت بيذبل

فيا لك من ليل كأن نجومه

بإمراس كتان إلى صمّ جندل

كأن الثريا علقت في مصامها

إننا نحس بخوف امرئ القيس من الليل ومن المجهول الكامن فيه كما كان يخاف أن تهجره المرأة وتقطع حبل المودة بينهما، فهو إذا يخشى الوحدة، ويخاف نفسه المصطرعة المضطربة، لأنه يخشى أن يتغلب فيها عنصر الفناء على عناصر البقاء فيهرب من هذا الصراع الداخلي إلى أحضان المرأة واللهو معها. أما الآن فهو يجابه وحدته مع الليل فينبعث (اللاشعور الجماعي) قوياً عارماً، فالليل حيوان خرافي عظيم الخلقة، لعله من مخلفات الأساطير القديمة والعبادات الوثنية. وكأن هذا الحيوان الخرافي الهائل يجثم على صدره ويضيق تنفسه ويشعره بدنو أجله أو دنو الموت منه. والثقل والجثوم لا يكون في هذا الحيوان الهائل فقط بل في جبل يذبل العظيم الذي شدت إليه نجوم السماء. فكأنه هو الآخر يجثم على صدره ويضيق أنفاسه بنجومه المربوطة إليه (بكل مغار الفتل)، حتى الحبال قوية ثقيلة. ترى هل كان جبل يذبل والنجوم المشدودة إليه معبوداً عبده أجداد امرئ القيس فيما سبق فظهر خوفه منها؟ بينما النجوم الوامضة في سديم الليل تبعث على الألفة والحياة أكثر مما تبعث على الخوف والرهبة وضيق الصدر، إلاّ إذا ارتبطت بقضية ميثولوجية عندئذ تفقد مظهرها الخارجي ويؤثر إيحاؤها الديني في نفوس الناس. وأعتقد أن وحشة امرئ القيس منها يعود إلى مثل هذا السبب، وإلاّ لما أصبحت (الثريا) التي كانت قبل قليل مبعثاً لسعادته بحيث جاء وصفها عذباً جميلاً (إذا ما الثريا في السماء تعرضت تعرض أثناء الوشاح المفصل) مصدراً لخوفه ورهبته الآن بحيث أنها لثقلها ورهبتها علقت بحبال قوية من الكتان إلى حجارة صماء غير متخلخلة. إن الثريا ثابتة في مواجهته لا تتحرك ومثلها بقية النجوم والليل، فهم ثابتون كجبل يذبل. وهم جاثمون على صدره يشعرونه بالوحشة والرهبة والخوف كالحيوان الأسطوري الهائل. ألا ما أثقل الوحشة والليل على نفس امرئ القيس العذبة الرقيقة المليئة بالحياة والحب والحركة. لذا كان انبلاج النهار باعثاً للحيوية والنشاط في نفس شاعرنا لأن النهار هو الحياة والألفة والحركة بعكس ليل الوحشة والخوف والهموم.

الحصان:

جاءت الأبيات المعبرة عن انبلاج نهار الحياة سريعة متحركة بعكس الأبيات التي عبرت عن ليل الموت والوحشة والخوف، فقد كانت بطيئة ثقيلة الحركة كثقل الليل وطوله في نفس امرئ القيس ((لابد من علاقة بين أي فكرتين تلي إحداهما الأخرى سواء أكانت تلك العلاقة ظاهرة أم غير ظاهرة، فالعقل لا يستطيع أن يغير الموضوع حينما يشاء من غير إشارة إلى ماضيه القريب. فالذكريات أفكار مرتبطة وحتى في التفكير المتعمد تكون الروابط لا شعورية فيفيض التيار العصبي من غير تفكير في المسالك العصبية ولا يستثير شرارة الشعور إلا عندما يقفز من طرف لآخر)).

بمنجرد قيد الأوابد هيكل

وقد اغتدي والطير في وكناتها

فقد جاء هذا الانطلاق على ظهر حصانه كانطلاق الطيور في الصباح من أعشاشها كرد فعل للسكون الذي ولده الليل بثقله العظيم وهمومه الكثيرة، والشاعر إذا كان ينطلق مثل انطلاق الطيور في الصباح إلاّ إنه يسبقها في الانطلاق.

أما تضخيمه للفرس بوصفه بـ(قيد الأوابد هيكل) فهو رد فعل لإحساسه بثقل الليل (تمطى بصلبه وأردف إعجازاً وناء بكلكل). فكما صور ثقل الليل تصويراً أسطورياً استمده من الديانة الوثنية القديمة، كذلك شبه فرسه بتشبيه ديني استمده من الديانة المجوسية فشبه فرسه بالهيكل الفخم الذي يتعبد فيه المجوس أو بالهيكل العظيم الجميل الذي يؤدي فيه النصارى طقوسهم الدينية. وهكذا يبدأ امرؤ القيس أغنية الحياة المتمثلة بالطبيعة بما فيها من حيوان ونبات وبرق ورعد وسيول وأمطار وكأنه يوحي لنفسه بجمال الحياة وقدرتها على الانتصار أمام الليل المدلهم كثير الهموم والأهوال الشبيه بالموت ((فالشاعر منذ أول وهلة يغني لنفسه لأحلامه وآماله ويصور هذا الغناء تلك البيئة الفياضة بالأخيلة البسيطة الخالية من التعقيد المعتمدة على الإدراك الحسي المباشر)).

وما لبثت الحياة أن اندفعت بكل عنفها وقوتها وحركتها متمثلة بحصانه، وجاء وصفه الحصان بالسرعة متوازياً مع ثقل الثريا أثناء الليل، فكما جثمت النجوم ثقيلة على صدره كثقل الليل انزاح هم الوحشة من قلبه مثلما ينزاح جلمود الصخر من فوق مرتفع بتأثير سيل جارف. إنها الحياة التي يصفها امرؤ القيس في مواجهة الموت:

كجلمود صخر حطه السيل من عل

مكر مفر مقبل مدبر معاً

حتى أن الموسيقى الداخلية للشعر تغيرت فبعد أن كانت ثقيلة بطيئة حزينة عند وصفه لليل أضحت خفيفة سريعة مرحة وهو يصف طلوع النهار وممارسته لحياة المتعة واللهو. يسعى امرؤ القيس لإثبات وجوده كرد فعل لضياعه في خضم الطبيعة العظيمة وليلها المدلهم الموحش، إلى الانغماس في الحركة (لذا لم تعد انتقالات المعلقة مجرد أعراض تتعاورها وتلحق بها بالتناوب، بل هي شرح لأصالة النزوع نحو الفعل الذي يدركه الشاعر كجسد للجوهر وكرقعة للإنجاز في آن معاً. إن الجاهلي لا يستطيع أن يتصور نفسه خارج إطار الفعل فالفعل بالنسبة إليه هو الحقيقة المطلقة التي لا وجود لها في ذاتها أو التي لا وجود لها إلا إذا تجسدت في عالم الوقائع فالجاهلي يتوحد مع هذا الفعل بحيث يغدو كل منهما علة ونتيجة للآخر، الإنسان مشروط بالفعل والفعل مشروط بالإنسان)).

وعندما يمارس امرؤ القيس حياته وهو فوق حصانه يصفه لنا وصفاً كاملاً وكأنه يصف لنا الحياة، كما وصف لنا المرأة من قبل، ولكن بانجذاب أكثر وبمتعة أكبر وبمشاعر أعمق:

كما زلت الصفواء بالمتنزل

كميت يزل اللبد عن حال متنه

أثرن غباراً بالكديد الموكل

مسح إذا ما السابحات على الونى

إذا جاش فيه حميه غلي مرجل

على العقب جياش كان اهتزامه

ويلوى بأثواب العنيف المثقل

يطير الغلام الخف عن صهواته

تتابع كفيه بخيط موصل

درير كخذروف الوليد أمره

وإرخاء سرحان وتقريب تتفل

له أيطلا ظبي وساقا نعامة

مداك عروس أو صراية حنظل

كأن على الكتفين منه إذا انتحى

لقد امتاز وصفه لفرسه بالحب والمتعة فوصفها وهي في حركة مستديمة لا تعرف السكون كمقابل لسكون الليل- وهي خفيفة سريعة قوية- كبديل لثقل الليل وبطئه- ووصف خلقها وصفاً خارجياً واقعياً، وقيمة هذا الوصف قيمة تعبيرية وليست قيمة نفسية. إن هذا الفرس المحبوب يستخدمه الشاعر للهوه، وأنسه ومتعته ((إن ميوله في أول حياته كانت إلى اللهو والمتعة فافتخر بركوب الخيل للذة الطراد والقنص ومغامرات العبث والمجون، ولكن لما تغيرت الأحوال وحمل الأعباء شعر بما يشعر به الرجال الطامحون إلى المجد فافتخر بالقوة والبأس والشجاعة فادعى أنه كان يجوب الفيافي والقفار وينزل الأماكن المحفوفة بالأخطار)).

ولكنني أجد في حصان امرئ القيس حصنه الحصين ومرتعه البهيج معاً، فهو والحصان جزء واحد لا يتجزأ، فهو يحس بالاطمئنان والسعادة والوجود مادام على ظهره في حركة دائبة كما يجد سعادته واطمئنانه ووجوده في أحضان امرأة مشتهاة.

وبات بعيني قائماً غير مرسل

وبات عليه سرجه ولجامه

الصيد:

وحصان امرئ القيس يستخدم للصيد واللهو لا للقتال ((والأوصاف التي تعطي هذا الفرس القدرة على المتابعة والقدرة على المطاردة والانسياب السريع الذي يمنحها التمكن من اقتناص الصيد فهو منجرد بقيد الأوابد ضخم لا نستطيع الانفلات منه.. أو الكر والفر أملس سريع ويحاول الشاعر أن يمنحه قدرات تدل على سرعته وأوصافاً تفضي إلى تمكنه ولهذا كان في نموذج على العقب جياش.. له أيطلا ظبي وساقا نعامة والصورة تمتد حتى تصل إلى كل عضو يساهم في إبراز السرعة أو يعطي سعة في تلوين الصورة الفنية حتى تلوح الملامح الواضحة التي يستمد منها هذا الفرس قدرته على الانطلاق وقوته على الجري حتى يعن له سرب نقي جلوده، وكأنه عذارى في ملاء مهذب
أو مذيل ويصر الشاعر على أن يجعل الفرس يوالي ويصرع واحداً بعد
واحد الثور والنعجة ويختتم لوحته هذه وطهاة اللحم بين منضج أو معجل)).

عذارى دوار في الملاء المذيّل

فعنّ لنا سرب كأن نعاجه

بجيد معمّ في العشيرة مخول

فأدبرن كالجزع المفصل بينه

جواحرها في صرة لم تزيل

فالحقنا بالهاديات ودونه

دراكاً ولم ينضح بماء فيغسل

فعادى عداء بين ثور ونعجة

لقد حظي الصيد بأهمية واضحة في المعلقة فهو بالإضافة إلى أنه من مظاهر لهو الصحراء ومصدر مهم للغذاء في البيئة المجدبة إلاّ أنه يمثل الحركة والحياة كما يمثل الصراع بين الحياة والموت الطريدة الحية السعيدة والصياد الشره الذي ينشب نبله فيها فيوردها مورد الهلاك. إن الصراع قائم على أساس السرعة والقوة، فحصانه جواد صيد وليس جواد قتال فهو يعادي النعجة والثور ويظفر بهما، والصراع هنا من أجل الحياة، فحياة الفريسة تعتمد على السرعة بالدرجة الأولى. فإذا استطاعت أن تسبق الجواد بقدرتها الفائقة على العدو نجت وفازت وإلاّ كان نصيبها الموت. ومن الغريب جداً أن امرأ القيس الإنسان المليء بالحياة لا يتعاطف مع الفريسة بل يفوز بها ليقيم وليمة فاخرة لندمائه وأصدقائه أو ليثبت قدرة جواده على الصيد ومقدار سرعته وقوته.

صفيف شواء أو قدير معجل

وظل طهاة اللحم من بين منضج

متى ما ترق العين فيه تسفل

ورحنا وراح الطرف يقصر دونه

عصارة حناء بشيب مرجّل

كأن دماء الهاديات بنحره

بضاف فويق الأرض ليس بأعزل

ضليعٍ إذا استدبرته سد فرجه

إن مشاهدات امرئ القيس الواقعية للحياة بسبب كثرة أسفاره وترحاله جعلته يدرك كيف أن الحيوانات القوية تفوز بالحيوانات الضعيفة، وقد مارس امرؤ القيس هذا الفعل عندما كان يحتاج إلى الطعام لندمائه. كما أن حبه للحصان، حصنه المنيع الذي لا يفارقه أبداً يجعله يقف إلى جانب فوز الحصان في هذا الصراع ما دام الحصان يمثله هو، فهو عندما يريد الفوز للحصان في هذا الصراع إنما ينقل هذا الفوز لنفسه لأنه دائم الركوب على ظهره في الصيد فهو والحصان واحد.

إن امرأ القيس استعمل الأسلوب التمثيلي المجسد في مشهد الصيد الذي عرضه مشكلاً قصة قصيرة عابرة فقد أوضح الموصوفات ولوّن جوانبها وعبّر من خلالها عن نفسه وحياته وحبه للخيل والصيد، عرض كل ذلك ((بحس سليم وتفوق ممتاز بجرس الكلمات)). ولكن مشهد الصيد لم يأت متكاملاً في المعلقة كما جاء في معلقة لبيد مثلاً، أو كما جاء في قصائد امرئ القيس الأخرى، رغم النهاية السعيدة التي وضعها لمشهد الصيد الذي قدمه في المعلقة ((ومن الممكن أن نعلم أن حملة الصيد هذه كانت موفقة كل التوفيق، فقد عاد امرؤ القيس وعاد معه فتيان كرام وتناثر الوحش المصيد وكانت الفرحة الكبرى في هذه الراحة بعد العناء المصروف في الصيد)).

إن قصة الصيد التي عرضها امرؤ القيس في معلقته قصة رمزية لم يقصد بها عرض ظاهرة الصيد فقط وإلاّ لأسهب فيها وأطال وأولاها عناية كبرى بل جاءت جزءاً من تأملاته في الحياة والموت التي بدأها عندما وقف على الأطلال، ولأن الصيد ظاهرة حياتية مهمة بالنسبة لإنسان الصحراء ((يقصد أولاً وقبل كل شيء إلى الحديث عن رحلة الحياة نفسها.. فليست هذه السرعة سوى صورة حية من توالي الأيام وتعاقب الليالي وليست تحفل بالساقطين والضعفاء والمهزومين فتتوقف أو تبطيء بل تمضي سريعة وهو قبل كل شيء رحيل الحياة في هذه المفازة الصعبة التي نعاشر في أحضانها الحزن والفرح)).

المطر والسيل:

لقد ظهر حب امرئ القيس للطبيعة من خلال معلقته، فقد ذكر فيها أماكن كثيرة هي تلك الأماكن التي طوف فيها وعرفها فغدت معشوقاته جزءاً منها، وانصهرت الطبيعة في معلقته حساً وشعوراً مع المرأة ومع صراعه النفسي فغدت كلها تعبر عن موقف موحد يقفه الشاعر تجاه الحياة والكون، فهو عندما يصف المطر والسيل إنما يصف الصراع بين الحياة المتمثلة بالمطر الباعثة على الخصب والنماء، والموت المتمثل بالسيل المدمر الجارف الذي لا يبقي على حيوان ولا شجر. وكأنه يقتلع الحياة اقتلاعاً. وهو إذا ما يمسك ريشته ويرسم لنا منظر البرق والمطر إنما يعبر عن طبيعة واقعية خبرها وعاش فيها وتملاها جيداً:

كلمع اليدين في حبّي مكلكل

أحار ترى برقاً كأن وميضه

أهان السليط بالذبال المفتل

يضيء سناه أو مصابيح راهب

وبعد اكام بعدما متأمّل

قعدت له وصحبتي بين حامر

يكب على الأدقان دوح الكنهبل

وأضحى يسح الماء من كل فيقة

لقد اعتمدت المعلقة النزعة الحسية والشعورية في تناولها الطبيعة والمرأة، فهو يعبر عن موقفه النفسي إزاء العالم الخارجي، فهو مبهور بقدر ما هو ملتذ بهذه الظواهر فهو يريد أن يمتلك هذا العالم في نفسه ليستطيع بعدئذ تجسيده في شعره، وهو يعرض لنا الطبيعة كما هي دون تعديل أو تحوير من الخيال، بل يبدو وهو يصفها وكأنها بالنسبة إليه تمثل إلهاً مزدوجاً من الخير والشر، ففي الوقت الذي يصف لنا كل ما يمكن أن تعطيه هذه الطبيعة من خير عميم يعود ليصورها مزمجرة عاتية تكاد تقضي على الحياة فيها، وهو إذ يصور لنا الطبيعة في معلقته يلتصق بالواقع فيذكر لنا أسماء الأماكن، ولكنه لا يجمد على الواقع الحرفي في تصويره للطبيعة بل يصفها منعكسة في زوايا نفسه.

فانزل منه العصم من كل موئل

ومرَّ على القنان من نفيانه

ولا أطما إلاّ مشيداً بجندل

وتيماء لم يترك بها جذع نخلة

كبير أناس في بجاد مزمّل

كأن أبّانا في أفانين ودقه

من السيل والإغثاء فلكة مغزل

كأن ذرى رأس المجيمر غدوة

بأرجائه القصوى أنابيش عنصل

كأن سباعاً فيه غرقى عشية

فقد أعطى للأشياء العظيمة (ذرى رأس المجيمر، السباع) وهي غرقى تشبيهات لأشياء صغيرة (فلكة مغزل، أنابيش عنصل) دلالة على صغر الأشياء العظيمة تجاه عظمة الطبيعة وقوتها وحركتها الدائبة. وما هذا الإحساس الفني العظيم في نفسه إلا موازنة بين العظمة في الحياة وسرعة الزوال في الموت، ولكن الحياة انتصرت في النهاية:

نزول اليماني ذي العباب المحمل

وألقى بصحراء الغبيط بعاعه

فقد تصرفت المياه في حزن من الأرض وتخلصت الحيوانات والنباتات من خطرها، حاملة معها ما أفنته منها. ولكن الحياة باقية متجددة دائماً وسرعان ما عادت إلى نشوتها الأولى وكأن خطر السيل (الموت): لم يتهددها:

صبحن سلافاً من رحيق مفلفل

كأن مكاكي الجواء غدية

لقد عادت دورة الحياة من جديد وانطلقت الطيور سعيدة منتشية بالصحو بعد المطر وكأنها سكرى لشدة سعادتها.

وقد أعطى امرؤ القيس للمكان والزمان وجوداً فنياً يعادل وجودهما الواقعي في تصويره لطير المكاكي. فهذه الطيور النجدية تبكر في الصباح تشنف الآذان باستقبالها لحياة يوم جديد. كما أعطت المبالغة الفنية في تصوير (العصم) وفزعها من جبروت السيل وقت العشاء تجسيداً لهذا الخوف. فقد أدركت الوعول المتشبثة بالحياة أن خطر الموت يتهددها فنزلت من جبل القنان لعلها تجد سبيلاً للخلاص من السيل فهي في النهار تصارع من أجل النجاة ولكنها لم تستطع الاستمرار في هذا الصراع عند العشية فيغرقها السيل. وإذا كان السيل ينعكس في نفس الشاعر ممثلاً للموت وجلاله بحيث يخيف السباع ويكاد أن يغرق الجبال فإن الغيث يمثل الحياة وما فيها من خير وخصب. وقد يكوّن الغيث السيل وكأن الشاعر يقول لولا الحياة لما وجد الموت. فالحياة دائماً متقدمة والموت تابع لها، فالحياة هي الأصل والموت تابع لهذا الأصل. ندرك من كل ذلك أن الوحدة الموضوعية متوفرة في المعلقة فهي تمثل موقف الشاعر من الصراع الأزلي في نفس كل إنسان بين الحياة والموت، وليست قطعاً متناثرة تتناول موضوعات مختلفة لا رابط بينها.

الخصائص الفنية في المعلقة:

امتازت معلقة امرئ القيس بواقعية تامة وعفوية منسابة لتصويرها واقع الحياة في العصر الجاهلي تصويراً صادقاً دون مبالغة أو تزييف إذا ما استثنينا بعض الأبيات المتعلقة ببيضة الخدر والحبلى والمرضع- ((وهو فيها فنان أصيل يمتاز بطاقة فنية ضخمة تتيح له الانطلاق في عمله الفني انطلاقاً طبيعياً من غير مشقة ولا عناء)).

الصدق الفني لتجربته الشعورية فقد عبّر عن انفعاله تجاه الحياة والمصير تعبيراً مباشراً دقيقاً حتى كدنا أن نحس حزنه ونشعر بفرحه ونشاركه رغباته وآماله وحرمانه. وقد عبر في ذكرياته المتداعية عند وقوفه على الأطلال وفي وصفه للّيل والحصان والصيد والمطر والسيل عن تجارب صادقة مرّ بها في حياته وأثناء تجواله وضربه في الصحراء، لذا جاءت بسيطة وواضحة كنفسه البسيطة الطيبة وكالطبيعة الصحراوية المنبسطة والواضحة.

إن موقفه من الحياة والموت وإحساسه بجمال الطبيعة، وحبه للمرأة والحصان والصيد وكرهه للترحال والأطلال والليل وخوفه من المجهول الكامن في بعد الحبيب سواء عن طريق الارتحال أو الموت وتعبيره الصادق عن كل ذلك بعفوية منسابة جميلة يدل دلالة واضحة على عمق التجربة الشعورية الموجودة في المعلقة وعلى صدقها الفني. قال غوستاف فون غرنباوم: ((إن هناك نوعاً من رابطة نفسية بين القفز الاستطرادي من موضوع إلى موضوع بين هذه الانتقالات العاجلة من حال إلى حال ومن انتباه إلى آخر)). وقال حسين عطوان: ((عرف الشاعر كيف يوفر الانسجام التام بين مقدماتها وموضوعاتها بسبب بسيط هو أن الشاعر عرف كيف يوفر الانسجام التام بين المقدمة والموضوع من حيث الجو النفسي في قصائده.. فالقصيدة تعبر عن موقف واحد وفيض واحد هي طبيعة الشاعر)).

وقال فالتربراونه: ((وتتداعى وتتهافت كل النتائج التي رتبها دعاة القول بشيوع الروح القبلي في الشعر الجاهلي إذا ظفرنا بقصائد أفردها الشاعر للحديث عن نفسه دون قبيلته ونضرب مثلاً معلقة امرئ القيس فإنه لم يتعرض فيها إلاّ لوصف الأطلال ومحبوباته ومغامراته وفرسه وخروجه للصيد ووصف السيل)). ويقول سيد حنفي: ((ونبحث عن سر عبقريته وعن مكنون الروعة في شعره فنلمس هذه الشخصية القوية التي طبعت إنتاجها بطابعها المتفرد وهي قوة تنبع من إقبال على الحياة دون حرج أو كشف لمفاتنها دون تورية ثم تعبير عن تلك الرؤى تعبير شاب له بها عشق كل مظهر من مظاهرها

وهو قادر على أن يقول ما يحسه وأن يترجم ما يفعله)). ويقول يوسف اليوسف: ((تغدوا المعلقة ضرباً من التاريخ الوجداني للفردية الناجزة في الواقع الموضوعي أو للفردية التي تثابر على إنجاز ذاتها)).

لقد أكثرت من ذكر الشواهد لإثبات حقيقة نفاها بعض مؤرخي الأدب ومنهم شوقي ضيف: ((لم يكن العرب يتصورون القصيدة تجربة شعرية على هذا النحو.. فإنهم كانوا يكتفون بأن تدور معاني الأبيات حول الموضوع ولكن دون أن يركزوا  أنفسهم فيه ودون أن يحسوا إحساساً عميقاً بأنهم يخلقون حدثاً عاطفياً وعقلياً من شأنه أن يصبح تجربة مخلّقة كاملة التكوين للرد عليهم ولبيان أن الشعر العربي الأصيل تتوفر فيه التجربة الشعورية الصادقة ونضرب لهم مثالاً على ذلك بمعلقة امرئ القيس، فقد جمع فيها الشاعر بين رقة الإحساس وتأثره بمظاهر الطبيعة الخارجية الخشنة خشونة الطبيعة الصحراوية. لقد توفرت الوحدة الموضوعية في المعلقة نتيجة لوحدة التجربة الشعورية لدى الشاعر ونتيجة لأحادية الموقف الذي وقفه من الحياة والكون، ووحدة الانطباع والانفعال الوجداني الذي لمسناه فيها، فقد توالت الأبيات معبرة عن القضية الوجدانية التي عاشها الشاعر.

وقال الحاتمي: ((من حكم النسيب الذي يفتح به الشاعر كلامه أن يكون ممزوجاً بما بعده من مدح وذم متصلاً به غير منفصل عنه فإن القصيدة مثلها مثل خلق الإنسان في اتصال أعضائه ببعض فمتى انفصل واحد عن الآخر وباينه في صحة التركيب وغادر الجسم تتمزق محاسنه وتقضى معالم جماله)).

يلمس قارئ معلقة امرئ القيس توفر الوحدة العضوية فيها إذا ما أعيد ترتيب الأبيات الخاصة بوصف السيل كما رتبناها- وانتهت المعلقة بالبيت الذي يصف فيه انبلاج الصباح وانطلاق طيور المكاكي مستقبلة الحياة بعد السيل المدمر بأغاريدها الجميلة وكأنها سقيت خمرة عذبة فسرت فيها نشوة غامرة:

صبحن سلافا من رحيق مفلفل

كأن مكاكي الجواء غديّة

فقد جاءت الأبيات في القصيدة آخذاً بعضها بأعقاب البعض الآخر وكأنه قد خطط لها عن طريق تداعيها في لا شعوره بطريقة منسجمة أخاذة عبّر فيها عن معاناته لمأساة الضياع التي يعيشها رجل الصحراء من جراء التنقل المستمر وراء سبل العيش ومن هموم تنتابه وهو يعيش هذا الضياع وآمال جميلة تساوره عن طريق تداعي الذكريات الجميلة الحلوة في الأمن والاستقرار بين أحضان امرأة جميلة وطبيعة رائعة أخاذة ((وهذا يعني أن الوحدة في القصيدة تبدأ من البيت الأول وتتشابك أجزاؤها بشكل متناسق وترتيب منطقي سليم حتى تنتهي وهي وحدة موضوعية مهيأة في ذهن الشاعر ووحدة شعرية التزم بها ووحدة عضوية اتحد فيها المضمون والشكل)). لقد اتحد موقف الحزن عند وقوف الشاعر على الأطلال وتذكره لحياة الترحال بهموم الليل الطويل والرهبة من السيل العارم الذي تكمن في حناياه أسرار مجهولة، وقد اتحد هذا الحزن بفرح ذكرياته عن المرأة وبفرحه وهو فوق حصانه، حصنه الحصين ينهب به الأرض ملاحقاً الصيد تارة وذائباً في جمال الطبيعة التي يعشقها الشاعر إلى حد الإدناف تارة. يقول ابن طباطبا: ((أحسن الشعر ما ينتظم القول فيه انتظاماً ينسق به أوله مع آخره على نحو ما ينسقه قائله فإن قدّم بيت على بيت دخله الخلل كما يدخل الرسائل والخطب إذا نقص تأليفها بل يجب أن تكون القصيدة كلها ككلمة واحدة في اشتباه أولها بآخرها نسجاً وحسناً وفصاحة ألفاظ ودقة معان وصواب تأليف ويكون خروج الشاعر من كل معنى يصنعه إلى غيره من المعاني خروجاً لطيفاً على ما شرطناه حتى تخرج القصيدة كأنها مفرغة إفراغاً لا تناقض في معانيها ولا هي في مبناها ولا تكلف في نسجها تقتضي كل كلمة ما بعدها ويكون ما بعدها متعلقاً بها مفتقراً إليها)). ويرى بدوي طبانة أن الصلة قوية وعضوية في قول امرئ القيس في بيتي المعلقة:

وأردف إعجازاً وناء بكلكل

فقلت له لما تمطى بصلبه

بصبح وما الإصباح منك بأمثل

ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي

حتى لا يكاد إنسان أن يفصل بينهما. وقد يرى بعض مؤرخي الأدب غير ذلك ((ومن الحق أن القصيدة العربية لم تكن تعرف هذه الوحدة العضوية معرفة واضحة قبل عصرنا الحديث حيث نجد القصيدة متحفاً لموضوعات مختلفة لا تربط بينها أي رابطة قريبة)). ونحن نرى عكس ما يراه شوقي ضيف كما أثبتنا سالفاً.

اعتمد امرؤ القيس في إظهار الصورة في المعلقة على التشبيه وأولع به ولوعاً بارزاً عن طبع وعفوية دون تصنع أو تكلف. وكانت مادته لهذا التشبيه الجميل من الطبيعة الصحراوية أو من حياة الترف التي كان يحياها، وانصب اهتمامه بالدرجة الأولى على الأوصاف الخارجية، وتشابيهه قصيرة وسريعة تكتفي بالتلميح والإشارة:

كجلمود صخر حطه السيل من عل

مكر مفر مقبل مدبر معاً

وقد ابتكر العديد من التشبيهات التي أصبحت مادة مهمة للشعراء من بعده، كبيضة الخدر وقيد الأوابد إلى آخر ذلك، وقد أشبع الباحثون هذا الموضوع إعادة وتكراراً.

*وقد اعتمد امرؤ القيس في معلقته على الوصف وقد بدأ هذا الوصف أحياناً خشناً رغم رقة عاطفة الشاعر ويعود ذلك إلى تأثره بالبيئة الخشنة:

تضل العقاص في مثنَّى ومرسل

غدائره مستشزرات إلى العلا

أساريع ظبي أو مساويك اسحل

وتعطو برخص غير شثن كأنه

وقد ربط أوصاف الإنسان بأوصاف من الطبيعة مما يدل على أن الإنسان الموصوف في معلقة امرئ القيس هو جزء من الطبيعة. وقد جاء وصفه لأجزاء جسم المرأة مشابهاً في دقته لوصف الظواهر الطبيعية الخارجية، وقد اهتم امرؤ القيس اهتماماً ظاهراً بوصف المظاهر الخارجية للجمال سوءا أكان ذلك الوصف متعلقاً بجمال المرأة أو بجمال الطبيعة. ولم يصف لنا المظاهر الخارجية تلك معكوسة في النفوس. ومن هنا قصر الحديث عن خلجات النفس الإنسانية وفاض الوصف للمظاهر الخارجية للجمال. وبالذات المحاسن الخلقية لأنها تمثل المظهر الخارجي للطبيعة. وقد استعرض هذا الجمال من دون أن يحدد سمة معينة لهذا الجمال كما ينعكس في النفس ويؤثر في المشاعر والنفوس بل كان همه أن يصور مظاهر الحياة البهيجة. ومن هنا جاء وصفه للمرأة سطحياً خالياً من العمق على العكس من وصفه للمطر والسيل والليل، لأنه لم يتغلغل إلى أعماقها كما فعل مع وصف الليل مثلاً. فهو ينظر إلى المرأة كجزء من الطبيعة يتمتع بها كما يلهو بمحاسن الطبيعة وهو على ظهر فرسه، بينما دقت الأوصاف في الحصان لأنه يشاركه أحاسيسه فهو أحب إليه من المرأة، ولكن المرأة أشهى عنده من الحصان. فالحصان يمثل لديه حياته الكاملة، أما المرأة لديه فهي جزء من الحياة فهي وسيلة للمتعة فقط كالخمر.

وقد اهتم امرؤ القيس اهتماماً ظاهراً بالصورة الأدبية وهي عنصر أساس في رسمه لشعره ويمثل العمق لها وهي تحمل في ألوانها وظلالها أحاسيسه ومشاعره، بريشة شفافة سريعة الإيحاء متجاوبة مع قدرته الفنية على التصوير وخاصة في وصفه لحصانه وفي وصفه للطبيعة (الليل والسيل والمطر). ولكنه استخدم الصور البسيطة المجزّأة في وصفه للمرأة بحيث أنه لا يترك في نفس القارئ إيحاء كاملاً عنها بقدر ما يترك في نفسه انطباعاً معيناً عن محاسن المرأة عامة. بعكس ما فعل في وصفه للحصان فقد أعطانا انطباعاً كاملاً عنه فهو لسرعة عدوه يلحق بالوحوش الناجية بنفسها ويحيط بها، وعندما تصاب يصطبغ صدره بدمائها. والشاعر يكثر من استعمال التشبيهات لإكمال صوره ولا يكتفي بمجرد ذكر الصفات لأنها لا تعطي للصورة جميع جوانبها ((وكأنه رأى أن الإيضاح بالنعوت والصفات أقل دقة ووضوحاً منه بالتشبيه فعمد بعد ذلك إلى تشبيهه بالجديل فإنه على بساطته يتضمن الضمور واللطف وتداخل بعض الأجزاء في بعض مع الخلو من الفضول والترهل)).

النزعة القصصية سمة ظاهرة في معلقة امرئ القيس منذ وقوفه على الأطلال وحتى نهاية المعلقة بعد أن أشرقت الشمس وانتهى السيل العارم وعادت طيور المكاكي تغني في الصباح وهي سكرى بجمال الطبيعة ونشوتها، فهو في هذه القصة يبدأ بالوقوف على الأطلال فيحس بالوحشة والألم لحياة التنقل التي يحياها سكان البادية، بحيث تبعده عن من يحب. وهذه هي البداية ويصيبه الإحساس بالوحشة لظاهرة الترحل إحساساً بالوحشة من المجهول الذي يكمن في ضمير الكون (الموت). ويحاول الشاعر أن يثبت وجوده أمام الموت فتتداعى الذكريات في مخيلته وتختلط صور النساء اللواتي فارقهن بمظاهر الطبيعة الموحشة والسعيدة، فيحدثنا عن عشيقاته وعن موقف فاطمة منه وصرمها له وعن حصانه الذي يقضي أوقات سعادته بصحبته. وعن الصيد وعن الطبيعة التي عاش في أجوائها حتى تنتهي القصة نهاية سعيدة وتعود الطبيعة إلى انشراحها والطيور إلى غنائها وهو إلى فرسه الذي لا يفارقه ((أما غزله قائم على الوصف التقريري الذي يوحد الطبيعة والمرأة ويقارن بينهما ويقوم على السرد واعتماده الحوادث المثيرة والنزعة القصصية تقرب إلى نفس القارئ ولكنها تبعدها عن السوية الفنية لأن السرد هو عالم النثر وليس من عالم الشعر)).

وهذا الكلام لا يستقيم لأن النزعة القصصية وجدت في شعر الملاحم والشعر المسرحي كما وجدت في النثر، وقد أبدع فيه امرؤ القيس إبداعاً كلياً مما دعا الشعراء من بعده إلى تقليده ولاسيما عمر بي أبي ربيعة الذي أبدع فيه أيما إبداع.

وهو يوجز في تركيب أسلوبه التصويري القصصي، فهو لا يصف المكان وصفاً مفصلاً ولا يصف ما فعلته عوادي الطبيعة بإسهاب بل يكتفي بالإيحاء، ولا يطيل في تتبع الظعائن كما فعل زهير مثلاً، لأنه حزين شاك من الموت فهو لا يطيل الوقوف عنده كما يطيل الوقوف في مواطن حركة الطبيعة واندفاعها أو إطالته في وصف المرأة ومغامراته النسائية، فهو إذ يتعالى على الموت بالإيجاز يسهب في مواطن الحياة والحركة.

وهو في ذكره للأطلال يذكر الرحيل لأنه الموقف الصعب ((الموت المعنوي) وهذه ظاهرة طبيعية في الانتقال. وهو يتساءل ويذكر لنا الطريق والهودج والنساء، ويفصح عن عواطفه الصادقة المتألمة، ويحيي عشيقاته في نفسه، ويذكر موقف الوداع بكثير من الحسرة والألم من خلال صلة الإنسان بالإنسان (صلته بالمحبوبة الراحلة) كما يوحي لنا بالعلاقة المكينة بين الإنسان والبيئة.

وهو في سرد ذكرياته مع عشيقاته يصفهن لنا بجرأة وقصد في وصف المحاسن مع وضوح كامل في وصف تلك المحاسن وتفصيلها وتجزئتها. وهو يمتلك في هذا المجال إرهافاً وحساسية كبيرتين، وهو يعجب بالمرأة كما يعجب بالطبيعة ويصفهما وصفاً جميلاً ولا يذكر وصفاً جميلاً إلا وقرنه بها وأضفاه عليها وهو في وصفه لا يتعدى التشبيه للمظاهر الجسدية الخارجية التي تكمل صورة اشتهائه لها وتدفع الرغبة في نفسه لإفراغ غريزته وإشباعها ليكمّل عنصر الحكاية الغرامية التي سعى إلى وصفها وليجد مبرراً للمخاطر التي عرض نفسه لها باجتياز الحراس الذين يحرسون (بيضة الخدر) للوصول إلى المتع الجسدية التي وفرتها له.

امتاز امرؤ القيس بموسيقاه الشعرية العالية، والتي لها تأثير كبير في النفوس تفعل فيها فعل السحر وهي بالرغم من  اعتمادها على البحر الطويل بحر الفخامة والجزالة- معتمدة أيضاً على قافية (اللام) السلسة الجميلة العذبة إلاّ أنها تتلون بانفعال الشاعر فهي تبعث على الحزن والألم في مطلعها وعلى الملل عند وصفه للّيل وعلى الرهبة عند وصفه للسيل وعلى البهجة والفرحة في المقاطع الأخرى التي يتحدث فيها عن الحصان والصيد ومغامراته الغرامية. وتبعث كل تلك الألحان الجميلة المتنوعة من الموسيقى الداخلية من موسيقى ألفاظه وتراكيبه التي عبر فيها عن حياته التي يتمثل فيها امتزاج البداوة والحضارة وتعبر عن الحنين واللوعة والسخط والرضا والبهجة والألم.

أما الألفاظ في معلقته فقد جمعت بين خشونة الصحراء وطراوة الحضر، فهي في الأولى تعبر عن مشاعر صادقة في انتزاعها من نفسه الحساسة المرهفة للجمال وفي الثانية استوحاها من خشونة الطبيعة والبيئة التي عايشها أثناء تجواله وضربه في الآفاق. وقد التجأ إلى ذوقه الفني العالي في اختياره للألفاظ، فهو يختار اللفظة المناسبة في موضعها المناسب، وهي تختلف رقة ولينا حسب موقعها من الجملة التي يريد أن يعبر فيها عن معنى معين. وهو كثيراً ما يأخذ اللفظة الخشنة فتستحيل بين يديه عذبة لينة حين يصنفها في مكانها من التركيب ((لم يستعمل هذه الألفاظ إذن لأنه شاعر جاهلي خشن جلف يحب الحوشي من الكلمات ويعجز عن تحقيق التناسق وعدم التنافر في كل ما ينظم بل لأن صورته المقصودة وعاطفته الغالبة تقتضيها اقتضاء عضوياً)).

وامرؤ القيس شديد الإيجاز في الألفاظ التي يستخدمها في تراكيبه، فهو يختار دائماً اللفظة المطابقة للمعنى الذي يريده، تلك اللفظة التي ترتبط من خلال التركيب الجملي مع اللفظة السابقة عليها واللفظة اللاحقة بها وكأنه نسيج متلاحم أخاذ يمتاز بالقوة والجمال معاً ((وفضيلتها أنها ألفت بين غاية الدقة والإيجاز في التعبير عن مشهد متحرك يقتضي جملاً طويلة لكل مشهد عبارة أو جملة على الأقل حيث يفيض الانفعال الظاهر ويضمر في قلب المشهد الواقعي فلا يعدل منه بل يتقيد فيه بالحقيقة الحسية يروضها ويتروض بها من خلال اللفظة فيجمع أقصى دقائقها وأكثر جزئياتها بأقل ما يمكن من اللفظ)).

وهكذا كانت اللفظة والتركيب من العناصر الفنية البارزة في معلقة امرئ القيس.

لقد استخدم امرؤ القيس الحوار كأسلوب فني جديد خرج فيه عن رتابة عمود الشعر التقليدي مما حدا بالشعراء من بعده أن يقلدوه فيه كما عبر من خلال هذا الحوار عن أحاسيس خاصة وطموح خاص إلى الوصول إلى قلب (عنيزة) كما في قصة دارة جلجل، وأوضح لنا من خلال هذا الحوار عن انفعالاته الخاصة تجاه المرأة وعن هدفه من السعي إليها. هذا بالإضافة إلى أن هذا الحوار الذي استخدم فيه (قالت وقلت وحلفت) ساعد مساعدة كبيرة في تطوير الأسلوب القصصي لديه وتحريك الحدث إلى أمام كما ساعد في الكشف عن بواطن الشخصيتين (امرؤ القيس وعنيزة) بشكل فني بارع لم يكن ليصله الشاعر لولا هذا الحوار. وقد جاء الحوار واقعياً متناسباً مع الشخصيتين في أوضاعهما الخارجية والنفسية والاجتماعية والفكرية، بمعنى آخر إن هذا الحوار الذي استخدمه امرؤ القيس في قصه لحادثة دارة جلجل ساعد على إعطاء جميع الأبعاد لشخصيته وشخصية عنيزة، واستكمال تشخيصهما أمامنا. ولولا هذا الحوار الجميل لما اكتسبت القصة كل هذا الجمال والروعة ولما استطاع الشاعر أن يوضح ذاته ويحققها معاً ((تمثل هذا الاتجاه الذي حاول فيه امرؤ القيس أن يدخل هذا الحوار الفني في ثنايا قصيدته فأضاف إليها هذه الصور الجديدة التي توصل إليها خياله واهتدت إليها شاعريته وهي صورة تسودها الحركة ويتجسد فيها الخيال ويتناوب فيها الجواب وما يلازم الصورة من أوضاع وأفعال وتقتضيه من ضمائر وهي أقوال توحي بالتصورات التي كانت تدور في نفسه وتوحي بما كان يتمناه من أحوال، ومحاولة جديدة في توزيع الإحساس الذي كان ينوء به الشاعر الجاهلي وهو يقع تحت طائلة الزمن وأحداثه)). ومن كل هذا نستنتج أن امرأ القيس هو مبتكر الحوار في الشعر العربي، كما هو مبتكر الأسلوب القصصي فيه وقد قلده في ذلك من جاء بعده.

لقد راعى امرؤ القيس في بناء قصيدته ما يوجبه البناء الفني من شرف المعنى وصحته وجزالة اللفظ واستقامته، والإصابة في الوصف والمقاربة في التشبيه والتحام أجزاء النظم والتئامها على تخير من لذيذ الوزن، ومشاكلة اللفظ للمعنى وشدة اقتضائهما للقافية حتى لا منافرة بينها، واللجوء إلى التوازن بين
أجزاء بعض الأبيات: مكر مفر، وتعطو برخص، فأدبرن كالجزع، ومناسبة المستعار للمستعار لـه، واستخدام الترصيع بشكل فني أخاذ، فجعل مقطع المصراع الأول في البيت مثل قافيته، قفا نبك أفاطم، ألا أيها الليل، مع إمكانية الوصل الجيدة وهو حرف اللين الناشئ من أشباع حركة الروي كالياء الناشئة من الكسرة في المعلقة. هذا بالإضافة إلى الصدق والصراحة في التعبير عن الأحاسيس والعواطف وهو ناتج عن الحرية التي كان يتمتع بها امرؤ القيس والمعاني البسيطة التي استوحاها من طبيعة الحياة البسيطة بعيدة عن النزعات الفلسفية، وانعكاس مظاهر الحياة الجاهلية عليها، والمعاني المادية والأخيلة القريبة مما هو معروف في البيئة الجاهلية الصحراوية، ومع العين من الحنظل، رائحة المسك، ونسيم الصبا المار على القرنفل، شحم الراحلة إبريسم أبيض، عينا فاطمة تجزيء القلب بأجزاء الجزور، والحبيبة بيضة خدر، وبيضة نعامة، وترائبها المصقولة سجنجل، ونظراتها نظرات وحش وجرة وجيدها جيد رئم
إلى آخر ذلك ((ومنه قصائد مطولة جمع لها الشاعر شعاب نفسه واستغل فيها فنه ومواهبه إلى أبعد حدود الاستغلال)).

والخلاصة أن معلقة امرئ القيس ستبقى مخلدة ما بقي الإنسان لأنها التعبير الكامل عن قلق هذا الإنسان وضياعه في خضم الحياة الصاخبة والكون المجهول. فهي مفعمة بالحياة والحركة والتجدد للوقوف أمام الموت والدمار وهي مصوغة بقالب عال من قوالب الفن الرفيع والجمال الأخاذ لتقف أمام القبح والعطب والعقم.

 

www.omaraltaleb.com