الفصل السادس : يا ليلتي تزداد نكرا
دراسة بنيوية

نموذج تطبيقي/ قصيدة لبشار بن برد

قال بشار بن برد في الغزل:

من حب من أحببت بكــــرا

يا ليلتي تزداد نـــــــكراً

سقتك بالعينين خمــــــرا

حوراء إن نظرت إليـــــك

قطع الرياض كسينِ زهـــرا

وكأن رجع حديثـــــــها

هاروت ينفث فيه سحــــرا

وكأن تحت لسانـــــــها

ثيابها ذهبا وعطـــــــرا

وتخال ما جمعت عليـــــه

صفا ووافق منك فطـــــرا

وكأنها برد الشــــــراب

أو بين ذاك أجلّ امـــــرا

جنيــــة انسيــــــة

بشكاة من أحببت خبــــرا

وكفاك أني لم أحــــــط

نثرت لي الأحزان نثــــرا

إلا مقالــــة زائـــــر

عشرا وتحت الموت عشــرا

متخشعاً تحت الهـــــوى

وتكون للحكماء ذكـــــرا

تنسي الغوي معــــــاده

التحليل: (1) البؤرة والنسق

تكمن بؤرة النص في الشطر الثاني من البيت الأول (من حب من أحببت بكرا) (والبؤرة تتجمع فيها جميع أبيات القصيدة وتتفرع عنها) وقد شكلت البؤرة نواة تطورت القصيدة عنها، وأصبح النص أكثر شمولاً واتساعاً انطلاقاً من البؤرة وتشكل النص بنية متواشجة متكاملة، كما تواشجت وتلاحمت بنية البؤرة من طرفي ثنائية ضدية (من حب من أحببت + بكرا) طرفاها (أنا/ هي) تشكل عبر القصيدة ثنائيات متضادة، وينبثق وجود هذه الثنائيات الضدية على مستوى الذاتين (أنا/ هي)، وعلى مستوى الحركة والفعل.

وتفضي بنا البؤرة إلى  النسقين اللذين انتظما النص (النسق: عناصر متشابهة تصاغ منها إشارات وإرسالات متقاربة ومحكومة بوظيفة لغوية أو الطريقة التي تستعمل بها لتأدية الدور المطلوب منها، ولا يكشف المعنى إلاّ من خلال تسييق الوحدة اللغوية، أي وضعها في سياقات مختلفة،وتدرس تبعاً لتوزيعها اللغوي) وينتظم في النسق الأول (نسق الراوي: الأبيات التالية: الأول (- نكرا)، والثامن والتاسع والعاشر.

وينتظم النسق الثاني (المؤنثة الغائبة) الأبيات: الثاني والثالث والرابع والخامس والسادس والسابع والحادي عشر + (بكرا) من البيت الأول.

ويتميز النسق الأول (نسق الراوي) بصغر مساحته المكانية، وزمنه الفردي، وكثرة الصور التقريرية فيه، والحركية بقرينة الأفعال، ويبدأ بمنادى + اسم + فعل (حاضر).

ويتميز النسق الثاني (نسق المؤنثة الغائبة) بسعة مساحته المكانية، وزمنه الجماعي المتجلي في (الأساليب التراثية + القيم الجمالية التي ألفها الذوق العربي) وكثرة الانزياحات فيه (كثرة المجاز والتشبيه والاستعارة + التأثيرات الغيبية هاروت، جنية-) فضلاً عن السكونية بقرينة الأسماء، والبدء بحرف جر + اسم مجرور + اسم+ (فعل الشرط وجوابه) المستقبل. ومع دخولنا عالم القصيدة نقف أمام صراع متوال نلتمسه في مستويات تفكيكية عدة:

1-   المستوى الموسيقي

2-    المستوى المعجمي والدلالي

3-     المستوى التركيبي (النحوي والصرفي)

4-     المستوى البلاغي

5-     المستوى التزييني

المستوى الموسيقي

يربط (التصريع) بين لفظتي (نكرا/ بكراً) في البيت الأول بين الحركة في النسق الأول (نكرا) والسكون في النسق الثاني (بكرا) ولا يخفى ما للتصريع من أهمية في إضفاء طابع مميز لايقاع القصيدة من جانب، والتنبيه إلى  مسألة مهمة (المسكوت عنه) في النص والذي يسعى الراوي إلى  إثارته. ونمط التصريع هو (الترفيل) بزيادة سبب خفيف (5) (حركة وسكون) وبهذه الزيادة تتحول تفعيلة الضرب (متفاعلن) (///ه//ه) إلى  متفاعلاتن (///ه//ه/ه) وتتحول معها نسبة الحركة إلى  السكون من 3/6 إلى  1/3 وبذلك يتحدد كم الحركة وزخمها مقاساً بالسكون ودلالة ذلك محاولة الحد من الصراع بين الحركة والسكون في داخل التفعيلة وتكبيله.

نظمت القصيدة على وزن الكامل المجزوء. ويتسم هذا البحر بغنائية وحيوية لا نجدها في البحر الأصل (الكامل) الذي يتسم بالرتابة والصلادة، والمجزوء منه يتميز بالحركة النشطة، وينبثق من هذين الإيقاعين ثنائية ضدية طرفاها بحر الكامل (السكون) والمجزوء منه (الحركة) فبحر الكامل الأصل هو النظام، في حين أن المجزوء هو استثناء وهو يعني ضمنا خرق النظام، وفي هذا الخرق إفصاح عن المسكوت عنه.

وينطوي حرف الراء (روي) والألف (الإطلاق) على صراع بين الحركة والسكون، فالراء حركة تعطي دلالة على الاستمرارية، دلالة على أن المسكوت عنه مطلق (أي أنه ماض وحاضر ومستقبل في آن واحد) وتحد ألف الإطلاق (السكون) من حركة حرف الروي. وتصبح سلسلة تكبّله، ينسحب هذا على أبيات القصيدة كلها فهي تتسيج بهذه الألف التي تستحيل إلى  حجاب يحول بين الراوي والمسكوت عنه.

المستوى التركيبي:

يتحرك زمن النص في إشارات السكون والحركة كما يأتي:

1-    إشارات المستقبل ضد الحاضر، ويتكون من فئتين من الإشارات:

أ‌-        الأفعال المضارعة التي يتعين توجيهها نحو المستقبل، اما لأنها وقعت في المعادلة الشرطية، فعل الشرط وجوابه، وأما لأن السياق يرفعها من الحاضر إلى  الآتي:

نسق (1)      نسق (2)

تزاد ينفث

لم أحط         تخال

                تنسي

                تكون

ب‌-  الأفعال الماضية التي وقعت في فعل الشرط أو جوابه، فالفعل الماضي- في هذه الحالة- يتعين كونه إشارة إلى  المستقبل.

نسق (1)                 نسق (2)

لا يوجد                   نظرت              فعل شرط

                          سقتك              جواب شرط

2-    إشارات الماضي (فوق الحاضر) وتتكون من فئتين:

أ‌-    أفعال الماضي الخالصة:

     نسق (1)               نسق (2)

     نثرت                    كسين

     احببت +احببت          صفا+ وافق

     كفاك                   جمعت

ب‌-    الأفعال المضارعة المسبوقة بلم

     نسق (1)               نسق (2)

      لم أحط                   لا يوجد

3-    الإشارات التي تحمل الحدث أول تدل على التجدد- اسم الفاعل

         نسق (1)                    نسق (2)

         متخشعا                      لا يوجد

وعلى هذا الأساس، يكون الزمن في النسقين:

إشارات المستقبل إشارات الحاضر             إشارات الماضي

نسق (2) 7                                             نسق (2) 4

نسق (1) 4                                             نسق (1) 2

من الملاحظ، أن الحاضر لا حضور له في النسق الأول، لأنه يحاول إلغاء الحاضر، ليحل الماضي محله، ويأتي المستقبل في النسق الثاني ليحمل اللفظة من حاضرها اليائس المقفر، إلى  الآتي الزاهر، وتتفوق إشارات المستقبل في النسق الثاني على إشارات الماضي، حيث يتجاوز المستقبل الماضي ويضيف إلى  عطائه المكدّس، عطاء جديداً، فلا يثبت المستقبل عنده أو يتجمد ولكنه ينطلق منه بوصفه (الماضي) مهاداً وأرضاً صلبة له، وليحقق ذاته عطاء كما كان في الماضي أن النص معبأ بالحركة من خلال إشارات الزمن وتقبله بين الماضي المنقطع، والحاضر الذي يسعى إلى  الحركة، والمستقبل الآمل المتحرك، وهذه الثنائية (الحركة/ السكون) تواصلت مع تفاعل النسقين فيما بينهما، فقد اتجهت الحركة نحو السكون في نهاية كل بيت من أبيات النص، حيث تغلبت الأسماء التي صارت سياجاً يسيج النسقين سكونية تتمثل في إنعدام الزمن في الأسماء والتي تمثلت في (بكرا خمرا، زهرا، سحرا، عطرا، فطرا، امرا، خبرا، نثرا، عشرا، ذكرا).

وإذا كانت هذه الإشارات جامدة، إلاّ أن حركة تنمو من قلب السكون هذا فالخمرة، حركة لأنها تحول من حال إلى  حال، ومثلها السحر والعطر والزهر.. الخ تغيّر مستمر من حالة إلى  حالة، ودلالة ذلك أن المسكوت عنه على الرغم من ضموره فهو حيوي متجدد في الوقت نفسه.

يشكل النسق الأول (الحركة) سفحين أحدهما صاعد والآخر نازل، ويشكل النسق الثاني (السكون) القيمة التي يتجه إليها النسق الأول. ويبدأ سفح النسق الأول (الحركة) بحضور ضمير المتكلم في (ليلتي + أحببت) بالظهور الذي سرعان ما يتلاشى بوصوله القمة (السكون) ليحل محله ضمير المؤنثة الغائبة (نظرت + سقتك + حديثها+ لسانها+ جمعت+ كأنها) وضمير المخاطب الحاضر (سقتك+ إليك) وهما يدلان على المتكلم أكثر من دلالتهما
على المخاطب.

أما الأساليب، ففي النسق الأول يبرز الأسلوب الإنشائي حيث النداء (يا ليلتي) وهو للبعيد، ويمثل فجوة بين الراوي ومن ينادي (المؤنثة الغائبة) وهو إشارة على البعد بينه وبين العالم الكوني (الليل) الخاص به، وتفهم الخصوصية من الإضافة إليه فهو ليل أليل عليه، فضلاً عن أسلوب التعجب (كفاك أني) تدل على استنكار ورفض، وأسلوب القصر الذي دل على الضيق والتقييد.

وأعتمد النسق الثاني على أسلوب الخبر القائم على الوصف والتشبيه، وفيه نوع من الإغراء والتحفيز، وورد فيه العطف لتوكيد الإغراء في نفس الراوي.

3- المستوى البلاغي

*إن الجناس في الصفتين (نكرا وبكرا) وفي الحرف (من)، و(مَنْ)، فضلاً عن الإيقاع الصوتي الذي عمق الفكرة، يشير إلى  إمكانية التجانس بين الراوي والغائبة، على الرغم من وجود التضاد والتنافر الذي يمكن اعتباره وسيلة فاعلة في الوصول إلى  التوافق والانسجام والتناغم، فمفتاح الحركة ليس بالصراع المتضاد، بل في التجاوب والتجاذب فهنا لحنان متغايران يتصاعدان على مسار النص، تضاد وتناغم، تنافر وتآلف، الراهن والآتي، الساكن والمتحرك .

ويمعن النص في إبراز الاتحاد بالتدريج المتنامي بين العالمين المتضادين: الراوي/ المؤنثة الغائبة. عبر الصور التشبيهية المتلاحقة. وترشح صفات أخرى للمؤنثة الغائبة ومعمقة في الوقت نفسه في التضاد بين الكائن والمؤمل أن يكون، فبعد التجلي بـ (حوراء) وسقي الخمرة، وهي صورة تشير إلى  مسافة مكانية (مجال النظر) بين عالمين متضادين، يتجه نسق الراوي بحركته إلى  الاقتراب والتوحد، بتشبيه (رجع الحديث) المعنوي بـ (الرياض المكسوة زهرا) المادي في المشبه به، وينبئ المشبه عن الاتصال بينهما، فهو صورة من صورة، لأن رجع الحديث لا يكون إلاّ بعد الاستماع إلى  الراوي فتبادله برجع حديثها، لذلك يحاول تجسيده بالمشبه به المركب، فهو لا يتجسد في صورة (قطع الرياض) فحسب وإنما المكسوة بالزهر أيضاً ليوحي بعدم التلوث والدنس، وهي دلالة تتناسق في العرض والتصوير مع (بكر وحوراء) ومع (الثياب والذهب والعطر) في البيت الخامس، وهذا التناسق الفني يوحي بانبثاق الصور التشبيهية بعد ذلك عن الصفة الكبرى (بكرا) وتعمق الصورة التشبيهية (قطع الرياض..) دلالتين مهمتين: القوة والتأثير فضلاً عن الجمال، إذ أن مادة المشبه به (قطع) من التقطيع، وفيه دلالة القوة، وهما صفتان تتصاعدان أيضاً في البيت الرابع، مع ما يوحي به البيت من معنى جديد للصورة التشبيهية، (وكأن تحت لسانها)، إذ أن الدلالة الخارجية للتشبيه تتمثل في أثر الكلام في الراوي بتأثير السحر في المسحور، أما المستوى الأعمق فيتمثل بدلالة تغيير الواقع الذي يعايشه الراوي، وهو تغيير قوي فاعل لحضور (هاروت) تحت لسانها في السياق، فالسحر من دلالته تخييل بأن الواقع مثال ممكن، والتخييل يتحول إلى  تغيير، وهو يمثل في الوقت نفسه درجة من درجات التوحد بين (الراوي والمثال)، ولذلك تتجسد أمامه في صورة تشبيهية تمثل ذروة الحياة والمتعة والسلطة (وتخال ما جمعت عليه ثيابها ذهباً وعطر) فالمشبه (الجسد = المثال) لأن ما يجمع عليه الثياب هو الجسد، والذهب والعطر مشبه به، فهو تشبيه ملفوف متأرجح غير مستقر، قد ينصرف تأويله إلى  ظاهر الصورة أو باطنها، وهذا التأرجح، سبّبه الفعل (تخال) أداة التشبيه، لتوحي بأن المشبه أسمى من المشبه به، و(تخال) أداة مقصودة في التعبير عن الدلالة (التي تعمق السطوة والنفاذ والتغلغل)، وأدت (تخال) إلى  التلوين في أدوات التشبيه، وقطعت الإيقاع النمطي للأداة (كأن) وأحدثت إيقاعاً يتطلبه السياق، فضلاً عن دلالة التسامي التي أوحت بها الأداة (تخال).

*وإذا كانت هذه الصورة التشبيهية تمثل صوراً حسية منظورة، فإن الصورة التشبيهية في البيت السادس تمثل الذروة لأنها صورة غير منظورة (عميقة) جاءت بعد التمهيد والتطور المتنامي للصور الجزئية، ثم تنتهي الانزياحات (التشخيص والتجسيد) في البيت السابع الذي يمثل ذروة التوحد بينهما (وكأنها برد الشراب صفا ووافق منك فطرا) فالصورة التشبيهية تخرجها في صورة الشراب الصافي الموافق للفطرة، وهو مشبه به مركب يتناسق بتركيبه (الصفاء والموافقة والفطر) مع الصور السابقة، ويشير إلى  الصورة المتضادة لمعنى آخر للشراب، وبذلك ترسم الصورة التشبيهية عالمين متضادين للخمرة، خمرة الراوي وواقعه وفيها دلالة الزمان والمكان المقيدين، وخمرة أخرى موافقة الفطرة، تمنح الحياة والرواء، وفيها دلالة الزمان والمكان المطلقين من كل قيد، فهي دائمة حاضرة مستمرة، ثم يأتي البيت السابع ليمثل ذروة التوحد بينما، حيث تتقرر صورة الغائبة في حسه (جنية أنسية..) ويترشح التقرير في الشطر الأول في صورة مؤكدة من السياق الكلي للنسق الثاني، فهو البيت ما قبل الأخير من النسق، ويمكن عدّه البيت الأخير، إذ به تنتهي الانزياحات التشخيصية والتجسيدية، وما البيت الأخير (تنسي الغوي معاده) إلاّ تقرير لحقيقة تكشفت على وجه اليقين، فضلاً عن أن التقرير في (جنية أنسية) يجعل الاستفهام الاستنكاري (أو بين ذاك..) ذا قوة في التعبير عن دلالة التعجب والدهشة إذ ينفرد الاستفهام بالهمزة في نسق البيت ليعمق هذه الدلالة التي تشير إلى  التكشف اليقيني والتوحد معها.

ويحمل تجلي الغائبة بأسلوب التقرير في صورة (جنية أنسية) دلالتين متضادتين الخفاء والظهور، يؤكدان دلالة الغياب والحضور، ويستغرقان الزمان والمكان، مما يؤكد تجليها المطلق الممتد مع الزمان والمكان دون تقيّد.

وبعد هذا التجلي المتعدد المعاني للغائبة في جسم القصيدة والذي أشعرنا بضآلة حضور الراوي وحركته، يعود نسق الراوي ثانية بحركته بذات الإحساس المتوجع الذي بدأ به المطلع ليشير من جديد إلى  واقعه الخاص، وواقع الجماعة العام، بظهور أداة الخطاب إذ هي الجماعة تتلقى منه، وليؤكد أن الحركة مستمرة لاختراق عالمه (واقعه) إلى  عالم (الغائبة)، وتأكيداً للواقع الذي يعايشه بذلك الإحساس، يوظف في النص أسلوب الحصر والاستعارة والتشخيصية في بيتين متتاليين (الثامن والتاسع)، ويتمثل أسلوب الحصر في (وكفاك أني لم أحط + إلاّ مقالة زائر) والحصر بمقالة الزائر التي تنثر الأحزان، يعمّق مأساة الواقع الذي يعايشه، فهو مقصور على دائرة الحزن، وتوحي صورة الزائر بالتكرار في العقل، لأن فعل الزيارة قد يتكرر بتكرر نثر الأحزان، على الرغم من أن فعل النثر المؤكد بالمفعول المطلق (نثرا) وهو استعارة تشخيصية توحي بالسرور والفرح، فعالمه مسكون بالفرح، وهو فرح بالغائبة، فهي حاضرة في البيتين (من أحببت)، ويجلي أسلوبا القصر والاستعارة، التضاد بين المثال والواقع في أعمق صوره، ويكثفه ويحصره، فالغياب للمسكوت عنه، وعدم الإحاطة بين إلاّ على سبيل الحصر بالتوجع والألم المسكون بالفرح ويقفل النسق الأول ببيت يلفه الغموض ويغلفه، ويتوارى الراوي خلفه، هو والحقيقة اليقينية التي يشعر بها، (متخشعاً تحت الهوى)، والغموض هنا غموض فني، متأت من طبيعة النص والموقف، ويمكن تعليله بمسألتين: مسألة فنية ترتبط بتجلي الغائبة وغيابها بالنسبة للمتلقى، ومسألة ترتبط بتوفير الجو المناسب وتضبيبه، يتوارى خلفه الشاعر متقياً.والدلالات التي تتجلى في البيت من خلال الطباق بين (الهوى والموت) والجناس التام بين (عشر أو عشراً) تكشف عن شيء من هذا الغموض الفني، فهو متخشع ساكن تحت الهوى وتحت الموت عشرا، والوصل بينهما (المتضادين) بحرف العطف (الواو)، وهي المطلق الجمع، مما تعمّق دلالة الغموض، إلاّ أن السياق يحدد معنى الوصل، فهي وصل بين الواقع والمثال، المثال (الغائبة) سكون في محرابها، والواقع (الراوي) الذي يمثل الموت بغيابها، ولا يخفي ما في البيت من إشارة صريحة بهذا التقابل الفني بإدانة الواقع والجماعة فهما يمثلان الموت صراحة، والتطلع والشوق كما أوحى الجناس- إلى  الحياة (الهوى) التي تمثلها الغائبة حساً وفكراً وشعوراً في واقع الراوي.

4- المستوى المعجمي والدلالي

*يحشد النص ألفاظاً مخصوصة في أنساق التشكيل، وتشير على نحو جلي إلى أهمية ما يكمن فيه، فتتجلى الغائبة من المطلع (بكرا) وهي لفظة ممتلئة بالإيحاء والمعنى، وإنها سوف تتخذ صوراً متعددة في بنى استعارية على الرغم مما يأتي من صور تشبيهية جزئية متلاحقة تتناسق فيما بينها بتناغم لتقرب الصورة الكلية، (فالحور) فيه دلالة جماعية مؤثرة، بدا التأثير معها، ثم تعمقت دلالة التأثير والحضور الفاعل، ثم تبلغ الذروة إلى  حد النشوة بالخمرة، وفيها تغيّب وحضور، تغيّب للراوي وحضور قوي للغائبة، وهي صورة من صور التضاد الذي تقوم عليه بنية القصيدة على مسار الجدلية بين نسقي الراوي /الغائبة. فتتجلى الغائبة في شتى الصور، تشير إلى  نقيضها في النسق الأول (الراوي) أي أن صفات المثال المطلقة يقابلها ويضادها دائماً وعلى طول القصيدة، صفات الواقع (ضمناً) وتصريحاً عند ظهور (كاف الخطاب) في بعض المواضع، وهي صفات مغيبة لا تقاس بصفات (الغائبة) بل هي في تجليها تعني تغيّب الواقع والزمن الذي يحتويه، ولهذا نلحظ في النص غياب الراوي زماناً ومكاناً، باستثناء صوت الراوي الخفي المتوجع، وصفاته الباهتة الخافتة في دائرة من الزمان والمكان محدودة تشير إليه وتؤكد حركته لاختراق نسقه إلى  النسق الثاني (المثال).

وحوراء، التجلي الحسي الأول للغائبة، فهي مطلقة في الحضور الحيوي الفاعل، تمنح الذي تنظر إليه الحياة والرواء، وهي لا تمنحه إلا بشرط النظر إليه، ويتميز الراوي هنا بهذا الشرط ويترفع على واقعه بفعل النظر الذي خلق علاقة قائمة بينهما، هي علاقة البحث والألم، متحققة بالحركة وهي حركة تؤكدها كثرة الأفعال بأزمنتها المختلفة- فالنظر (الرؤية) متمخضة عن المعاناة الثنائية الضدية وهي من بواعث التجلي، ومنح الحياة والرواء، والاتصال بالزمان والمكان المطلقين. وتتوالى الألفاظ الدالة في النسق الثاني بدءاً من (بكرا) الجدة المستمرة، مروراً بـ (خمرة) وتعني النشوة وتعميق الحس والكشف عن الحقيقة وتوضيح الأمور وتجليها، و(رجع) وهي تمثل التناغم والتوافق، (وزهرا) الدالة على الجمال والنضارة والطهارة، و(هاروت والنفث والسحر) الدالة على العلاقة بين الواقع والمثال، والحلم والغموض، و(الذهب والعطر) المرتبطان بالنفاسة والجمال من جهة والخطيئة من جهة أخرى، و(فطرا) الاتفاق وطبيعة الحياة، و(الجنية والأنسية) الثابت والمتغير، والواقع والسحر، والطبيعي وما وراء الطبيعي، (تنسي الغوي) قوة الذكاء وتمكنها من تحقيق أهدافها بطرقها الخاصة، وهي فضلاً عن كل هذا عالمة حكيمة (الحكماء ذكراً)، إلا أن الوصول إليها صعب على الرغم من علم الراوي بها، والحيلولة دون الوصول إليها يولد القمع والقهر، مما يولد القلق والسعي إلى  اختراق الرتابة والحيلولة للوصول إليها (المسكوت عنه)، مهما كان الثمن الذي يدفعه باهظاً.

www.omaraltaleb.com