العودة للصفحة الرئيسة موقع الدكتور عمر الطالب

 

قصـة ملـك الجسـر والنهـر لعمـر الطالـب

 

تلج المكان عبر الحكاية الشعبية سرد متخيل يعيد إنتاج الواقع

الدكتور عمار أحمد الصفار

 

تمهيد: في البدء لا بد من تحديد طبيعة المدرسة التي تنتمي قصة ملك الجسر والنهر للقاص عمر محمد الطالب، وهي مدرسة الواقعية النقدية، والجدير بالذكر هو أن هذا الانتماء هو انتماء خارجي عام أي أن القصة تفيد من طروحاته في مسارها العام " فإذا كانت مرحلة الواقعية التقليدية تمثل نقطة بدء وانطلاق فكري وفني، فإن مرحلة الواقعية النقدية تمثل حلقة الربط بين ما كان مألوفا وما لم يكن، وقد جاءت هذه المرحلة أكثر حدة في التأثير، وأصلب عمقا في التركيز لأن القصة فيها اتسعت جوانبها، وضاقت بما هو مألوف، ولهذا لم تعد تقتصر على حديث طريف أو حادثة عابرة، بل إن الحديث الذي تطرحه تتجاذبه أطراف فنية وفكرية متلاحقة، تتصاعد به النوازع، والأحاسيس والانفعالات، كعناصر تشكل في الخاتمة وحدة موضوعية متبلورة"(1) ولعل أهم ما يميز قصة ملك الجسر والنهر، هو اعتمادها على الحكاية الشعبية بوصفها منطلقا للولوج الى عالم القصة القصيرة، التي تختلف اختلافا فنيا جوهريا عن الحكاية الشعبية، من حيث كون الحكاية الشعبية لا تقوم إلا على التتابع السببي المؤقت، في حين تعتمد القصة الفنية على ما يمكن تسميته بالبنية السردية، القائمة على التقديم البنائي المنظم (2) فضلا على البعد التالىفي وهو العنصر الأكثر أهمية في عملية القص، أعني أن الحكاية الشعبية نص لا مؤلف له يتغير بناؤه نسبيا مع تغير حاجات المجتمع (3) بينما تؤلف القصة لتثبت على حالها وتكون شاهدا على المرحلة الزمنية التي كتبت فيها. إن توظيف القصة قيد الدراسة للحكاية الشعبية، لا يعد ميزة بحد ذاته، ولكن ما هو مهم في هذا البعد هو طريقة التوظيف، ومدي الإفادة من البعد الخرافي فيها في تناول واقع يلقي بثقله كاملا على الشخصيات والأحداث. لذا سيكون السعي في التحليل منصبا على مدي تأثير الاعتماد على الحكاية الشعبية، ومدي إفادة القاص من طبيعة بنائها. لذا لا بد من طرح سؤال ليكون مدخلا للتحليل، ومفتاحا للبدء باستنطاق القصة.
ما الذي يمنح قصة (ملك الجسر والنهر) أهميتها؟ بتعبير آخر ما الذي يجعل من هذه القصة نصا قصصيا يستحق الاهتمام؟ ويري البحث أن جهدا فنيا بذله القاص د. عمر الطالب، يدفع الى الاهتمام بها، وتحليلها، على وفق معطياتها الشكلية، بناء ودلالة. لقد وظف القاص د. عمر الطالب حكاية شعبية ليكتب نصا قصصيا، سعي فيه الى تحرير الحكاية الشعبية من سياقها البنائي المتداول، بوصفها حكاية شعبية، وتحويلها الى مرتكز أساس من مرتكزات نص قصصي فني، يتضافر مع مرتكز آخر لينشئ قصة تضاف الى رصيد القص العراقي الموظف للحكاية الشعبية، ذلك الرصيد الذي يحتاج الى دراسة أكاديمية متخصصة.
لقد بنيت قصة ( ملك الجسر والنهر) على مرتكزين رئيسين هما: المكانالحكاية الشعبية

وهو مرتكز يعزز الأول، من حيث كونه حكاية شعبية موصلية، الأمر الذي يسمح بتوصيف القصة بأنها قصة مكان.


المكان:
يعد المكان في القصة قيد الدراسة المرتكز الأساس كما ذكرنا، فهو حامل المرتكز الثاني، من حيث كون الأول هو التي أنتج الثاني، وأنطلق في رأيي هذا من قناعة هي: أن لا زمان، ولا شخصيات، ولا أحداث قبل وجود المكان، وقبل هذا فإن المكان هو العنصر البنائي الأهم في خطابي القصة، وأقول خطابي القصة مستندا الى جيرار جينيت الذي يري أن الحكاية، وهي البعد الأبرز الذي يميز فن القصة عن غيره " لا تقوم على خطاب واحد بقدر ما تقوم على بعض الخطابات؛ خطابين أو أكثر" (4)
والخطابان في القصة قيد الدراسة هما (الحكاية الشعبية) والقصة التي تدور أحداثها في الموصل، هذا فضلا على أن زمن الحدث مغيب تماما، وكذلك زمن كتابة النص، إذ لم يثبت القاص تاريخا على النص، فالفضاء القصصي -هنا- هو المكان الجغرافي المنعكس في القصة، وهذا يعني أن القاص د. عمر الطالب - في هذه القصة يكثف الفضاء في المكان فحسب من وجهة نظر راو أساس وهو " الراوي الذي يقدم السرد الكلي بما في ذلك السرود الصغيرة التي تؤلفه أو أجزاء منه ، وهو الراوي المسؤول في النهاية عن السرد كله"(5) القاموس 105 وهذا الراوي هو راو عليم بالضرورة، "لا يشك أحد في سلطته" (6).
تؤدي الجمل الاستهلالية الأول دور مهيئ المخلية، لتستعد لاستقبال الشخصيات، والأحداث، ولا يكتمل هذا الاستقبال في النص الواقعي إلا بعد اتضاح المكان النصي المنعكس عن المكان الخارجي.
الحكاية الشعبية: مصطلح جنسي يطلق على كل المسرودات الخيالىة القصيرة أو الطويلة. انظر قائمة المصادر.

تستهل القصة بـ:
"... غرفت من ماء (المزمّلة) الموضوعة في جانب من الحوش ... وجدت نفسها في الزقاق الضيق المظلم... قادها الزقاق الىزقاق، والى زقاق آخر وآخر، مرت بشبكة من الأزقة الضيقة كدم يجري في الأوردة والشرايين داخل جسم مترهل، حتي وجدت نفسها في باب الشعارين"
إن هذه المقدمة الاستهلالىة تهيئ لتحديد المكان بالقدر الذي تؤدي فيه دور المدخل الى القصة، فقد حددت بإشارات واضحة أن مسرح الأحداث هو مدينة الموصل:
" عشّو" اسم المرأة، وهو صيغة تصغير لاسم (عائشة) يتداوله الموصليون في العقود الماضية، في منتصف القرن العشرين.
الأجساد المستلقية على أرضية السطح، سياق حياتي يمارسه الموصليون في ليالى الصيف، فهم ينامون على أسطح المنازل، في وقت لم تدخل فيه القوة الكهربائية الى أكثر البيوت، وما زال عدد من الموصليين يمارسونه.
أشياء تستخدم لتجميع الماء مثل (المزمّلة) وهي قطعة من صخر (الفرش) والموصليون يقلبون راء هذه الكلمة غينا، فيسمونه ( الفغش) بفتح الفاء وتسكين الغين، تجوّف هذه القطعة الصخرية بما يجعلها حوضا صغيرا لتجميع الماء.
طبيعة أبنية الأحياء الشعبية التي تجعل أزقتها ضيقة، وهي ما يعرف بالعامية بـ( العوجات) يؤدي بعض هذه الأزقة الى البعض الآخر، وهي مظهر واضح وجلي من مظاهر المعمار الموصلي التراثي.
التصريح بالمكان بعد هذه التهيئة: باب الشعارين، وهو تصرف شخصي من القاص؛ لأن المنطقة معروفة بـ( سوق الشعارين) ويتوالى التصريح بالأمكنة: باب النبي جرجيس)، قنطرة الجومرد، شارع نينوي، باب الجسر.


الحكاية الشعبية:
وهي المرتكز الأساس الثاني في قصة (ملك الجسر والنهر). إنها حكاية شعبية موصلية معروفة، وملخصها:
كان هناك شخص يرتدي الأسمال وشعره متساقط، ورأسه ذا قروح، يعتمر غطاء رأس يعرف بـ (القبع) وهو غطاء رأس مخروط الشكل، تنبعث من هذا الشخص روائح كريهة، وهو يمتطي عصا، ويعيش في سوق ( القطانين) والقطانون هم من يشتري القطن، ويبيعونه بعد غزله في منطقة ( السرجخانة) التي صارت شارع نينوي فيما بعد. يلتقي هذا الشخص (الخرافي) بامرأة توهمت بضوء القمر عندما كان بدرا، حتي أنها أقنعت نفسها، بأنها لم تسمع أذان الفجر؛ لأنها كانت نائمة " تذكرت أنها صلت الفجر ولم تسمع آذان الفجر( لابد أن الآذان سمع قبل أن أستيقظ... " وغادرت بيتها، ظنا منها أن الصبح قد طلع، فإذا بالأزقة خالىة تماما من المارة، والشوارع هادئة، لا أثر لسيارة فيها، فيصادفها بعد تجولها، هذا المخلوق الذي تظن عامة الناس أنه (جنّي) ويسألها أسئلته التقليدية عن قبعه "ع البرم برم أشلونه قبعي" وعن ثوبه المتسخ الممزق " ع البرم برم أشلونه ثوبي، وعن حصانه (قصبته) "ع البرم برم أشلونه حصاني" منتظرا الإجابات المرضية، ومن شدة ذهولها، وخوفها، تهادنه، وتلاطفه، وتجيب على أسئلته بما يرضيه، فيعطيها قطعة ذهب، وعندما تعود، الى البيت بعد ارتفاع شمس النهار، تروي القصة لجارتها، فتضمر جارتها النية على الذهاب في الوقت نفسه، على المكان نفسه؛ لتغنم كما غنمت جارتها. ولكنها ما أن تلتقي به حتي تبدي امتعاضها من شكله، ثم تجيب على أسئلته باستهزاء، وتصارحه بحقيقة أنه يمتطي قصبة، ويرتدي أردأ الثياب، وأوسخها، فيرعبها وتعود بخفي حنين. إلا أن د. عمر محمد الطالب أخذ إطار الحكاية العام، وحوّر بناءها، مسقطا عليها رؤاه، وأقد أعمل فيها خياله؛ ليمرر قصة قصيرة فنية، يطرح من خلالها رؤي، ومواقف،يبنيها بناء قصصيا على نحو يمنحها خصوصية القصة دون التفريط بطريقة سرد الحكاية الشعبية، وهذا ما سنلاحظه، عند تحليل السرد.
ويتمظهر التحوير واضحا في جعل خروج المرأة، ولقائها بشخصية غانم الـ ( الواقع- خرافية) الذي يفز منه بعد احتلام:
" أخذها من يدها، عبر بها الجسر، انحدر نحو الشاطئ، جذبهامن يدها الى النهر، صرخت بخوف خشية الغرق؛ لأنها لا تجيد السباحة، طمأنها...... حملها بين ساعديه، وغاص بها في قاع النهر، فإذا هي في قصر منيف بني بطابوق من  ذهب وفضة، ووشي بالأحجار الكريمة واللآلئ، نزع الرجل القبيح جلده، فإذا هو شاب لم تر عشو رجلا بجماله، مسح وجهها بكفيه، نزع ثوبها المهترئ، احتضنها بساعديه، قبّلها حملها الى سرير ملوكي من الذهب المرصع بالماس، قال لها: من اليوم أنت زوجتي ملكة مملكتي ملكة النهر ارتعش غانم شهق شهقات متلاحقة، فتح عينيه سمع خرير النهر، رأي شجرة
حانية عليه، أحس بلزوجة بين فخذيه، نزع كسوته، واغتسل في ماء النهر"
هذا هو التحوير الأساس في حدث الحكاية الشعبية، أما على مستوي الشخصيات، فقد كان تحويرها منسجما مع طبية القصة، وموفقا في خدمة دلالتها، ولم يفقدها دفقها الذي كانت عليه في الحكاية الأصلية. لقد أطلق د. عمر الطالب على الشخصية الـ (الواقع- خرافية) هذه، اسم (غانم) ولم يكن لها اسم محدد في الأصل، وأري أن إطلاق القاص هذه التسمية جاء لسببين هما: قدرته على الحصول على غنائمه إضفاء واقعية على النص، كما أطلق اسم عشّو على المرأة وهو اختيار أراه موفقا؛ لأنه يمثل إشارة تهيئة ضمنية لتقبل، خروج المرأة من دارها في مثل الوقت الذي خرجت به (الظلام)، لما له علاقة بمرض العشو الذي يحد - كما هو معروف- من القدرة على الرؤية، وتمييز الأشياء في الظلام. ، أما الشخصيات الأخرى فلا أسماء لها:
"قال الأعرابي الأول( كم؟)" وكذلك شخصية الصياد " قال غانم ... أجاب الصياد" وهي شخصيات هامشية من حيث فعلها المستقل في النص، واقتصر دورها على إضاءة الشخصية الرئيسة، وأري أن من وراء هذا التراتب في أهم الشخصيات، قصدا مرّره القاص، وكأنه أراد أن يقول- إذا ما أخذنا زمن نشر النص بعين الاهتمام- إن ثمة شخصية واحدة فاعلة، ومسيطرة وقامعة، ومبتزة، وفاقدة للرحمة في تعاملها من يقف بوجهها. حتي وصل بها الوهم الى أن تتخيل نفسها وقد ركع لها الزمان والمكان" وقف باعتداد ينظر الى النهر ناداه: دجلة العظيم ملكتك" إنه البطل المضاد بأجلي صوره؛ لأنه" بطل لا يتسم بالبطولة؛ سلبي، أو لا يمتلك التي تثير إعجابنا، شخصية رئيسة لا تتصف بالمزايا التي تربطنا تقليديا بالبطل" (7)
 

السرد:
يعرف قاموس السرديات، السرد بأنه: النسيج اللغوي الذي تنتظم به القصة؛ لأنه الأداة الرئيسة في بناء النص، فهو نسيج العلاقات بين العناصر الفنية، ومن خصوصيات أدائه تأخذ الأجناس الأدبية الحكائية خصوصياتها سواء أكانت ملحمة، أم رواية، أم قصة قصيرة، أم أي جنس أدبي نثري آخر، حتي لو لم يكن حكائيا، فالسرد " هذا الكلام المكتوب المقدم من راو هو المادة الأساس التي تقدم بدورها عناصر النص الأخري، وتهيئ لها سبل التفاعل وصولا الى بناء نص نسميه قصة أو... فالسرد بتوفيره الفضاء الذي ستؤدي فيه الشخصيات دورها سيكون العنصر الأهم في عملية الإدماج "(8) وهو مادة السيرورة القصصية، وملمحها الفني الأول، وله مظهران رئيسان هما:
1- السرد الموضوعي
2- السرد الذاتي (9)
وسرد القصة قيد الدراسة سرد موضوعي، أي أن راوي الأحداث يتمتع بمعرفة مطلقة، وسلطة لا يشك أحد فيها كما ذكرنا، وهو " مطلع على كل شيء، حتي الأفكار السرية للأبطال"(10)
وقد جاء اعتماد القاص على الراوي العليم في هذه القصة مبررا، كونها تنبني على حكاية شعبية، ولم تعرف حكاية شعبية في أي موروث شعبي محلي أو عربي أو عالمي راويا غير العليم الذي يري، ويسمع من خارج النص، ويخبرنا بما يدور نفوس الشخصيات، وبحركتها وسكونها " تعوذت من كل الشياطين، وقرأت كل الأوراد التي تحفظها" أو " وزعهم غانم فوق الجسر إثنان في بدايته من الجانب الىمن، واثنان في نهايته من الجانب الىسر" أو " الظلام يحيط الأجساد المستلقية على أرضية السطح، شخير زوجها ينبعث قويا مع شهيقه وزفيره" فضلا على تبنيه نقل الحوار الخارجي: حاولت أن تداري الموقف بابتسامة مغتصبة( كرك سلطان)" هذه أمثلة أوردها على سبيل التمثيل لا الحصر، ولا خروج عليها في القصة كلها. والسرد يعتمد في تمظهره في- أي قصة- على إحدي تقنيتين أو كلاهما، وهما:


أولا: الوصف:
وهو "فسحة السرد للتعريف بالأمكنة، هذا التعريف الذي سيؤدي بالنتيجة الى إضاءة الشخصية والتعريف بها" (11) ، انطلق في هذا التعريف مستندا على مقولة رينيه ويليك و أوستن وارين صاحبـي نظرية الرواية عندما قالا " فإذا وصفت البيت فقد وصفت الإنسان" (12)
والوصف ذاتي، وموضوعي، ولأن القصة قيد الدراسة خلت تماما من الأول، سأتناول الوصف الموضوعي، لأنه الطاغي، وهذا أمر منطقي، كون السرد موضوعيا. فالوصف الموضوعي هو " الوصف الذي يسود في الأعمال القصصية التي تعتمد على السرد الموضوعي، إذ يتكفل الراوي بوصف المكان، ومتابعة تفاصيله الدقيقة، وهو يقتصر على الموجودات المادية، فلم يشر أحد من النقاد الى تناوله التأمل " (13)
لقد اعتني الوصف الموضوعي بالمكان، وتناوله بدقة عين كاميرا، ولعل متابعته لحركة شخصية المرأة في استهلال القصة تصلح أن تكون أنموذجا؛ لأن الوصف يعتني بالمكان الذي تتحرك فيه الشخصية أيضا:
"استيقظت عشو على أصوات الديكة تتعلى من هنا وهناك الظلام يحيط بالأجساد المستلقية على أرضية السطح، شخير زوجها ينبعث قويا مع شهيقه وزفيره، السماء فوقها تنثّ أنوارا
تتوهج وتخفت مع بريق النجوم"
أما وصف الشخصيات فقد انصب على الشخصية الرئيسة (غانم)، في حالتيه؛ أي عندما كان قدمه وهو شخصية خرافية، بوصفه شخصية حكاية شعبية كما يأتي:
" نظرت الى رأسه المصاب بالقرع، وقد تقيح، وتساقط الشعر عنه، فوقه كرشة نعجة متسخة ما تزال الأزبال عالقة بها"
أو وصفه لها وهي (غانم) أي الشخصية المنقولة الى الواقع القصصي: " خرج من النهر عاريا بجسده الفارع المتين المتناسق"
ويتجلي وصف المكان في النظر الى منظر المساء على ضفة دجلة قبالة الموصل القديمة بعين فنان فوتوغرافي:
" الغزالة تنحدر بتؤدة نحو الأفق، حتي بدت قرصا كبيرا أحمر،راحت تختفي وراء الأفق بعد أن اغتسلت بالماء، تلألأت غابة الأضواء الملونة في المقاهي المنتشرة على الشاطئ الأيسر في الطريق المؤدي الى مدينة الألعاب والغابات"


ثانيا: الحوار:

وهو التقنية المكملة للأولي التي يعتمد عليها السرد، وشكل السرد القصصي لا يكتمل إلا به" (14) ويظهر الحوار في القصص، بنوعين أو بأحدهما، وهذان النوعان هما:
الحوار الداخلي: وهو الكلام الذي يدور في داخل الشخصية ولا يتطلب محاورا، يتجه من الشخصية والىها فهو " حديث لا مستمع له؛ لأنه حديث غير منطوق" القصة السايكولوجية من (15) ولا ظهور للحوار الداخلي إلا من خلال أساليب هي:
تيار الوعي  - المونولوج  - المناجاة (16)
ولعل أهم ما يميز الحوار الداخلي عن الحوار الخارجي فضلا على اختلافه عن بالتشكل على الورقة، هو أنه " يستبدل الآليات الخارجية المتحكمة باللغة، بآليات أخري مثل التداعي، والتذكر، والخيال(17) وهذا يعني ينشط معتمدا على الانفلات من الضوابط المنطقية التي يمليها الحوار الخارجي، وغياب الترتيب عند التذكر، والتخيل ما يولد حالة من التداعي الحر.
ولم يعتمد القاص عمر الطالب على هذه التقنية في تشكيل سرده، سوي ثلاث مرات، وجاءت المرة الثالثة وكأنها حوار خارجي:
"تخطي غانم على الجسر المقفر، وقف باعتداد ينظر الى النهر: ناداه :
دجلة العظيم ملكتك.
أجابه دجلة بخريره الذي تعلى قرونا عدة منذ وجدت الطبيعة.
نظر غانم الى الجسر رق بنظره الى السارية العليا، صاح بالجسر:-
أيها الجسر الحديدي أصبحت عبدا لي ..."
ولا يري البحث أي خلل في تجاهل هذا الأسلوب الحواري؛ لأن غيابه أدام فعل القص الذي يحيل الى الحكاية الشعبية. التي لم يوظف سردها إلا الحوار الخارجي، فضلا عن أن تيار الوعي عامة لا يرتاد إلا الدواخل، كما ذكرنا، فنشاطه يتحدد بالمناطق المبهمة الغائمة، وحركة القصة قيد الدراسة في الخارج، لذا لا مكان لها في المناطق المعتمة من الذاكرة والشعور( 18) فهي مناطق نشاط الشعر الذي لا قيمة فنية له في الانكشاف، والوضوح.


الحوار الخارجي: يأتي هذا الحوار الذي يدور بين اثنين أو أكثر، كما هو واضح من عنوانه، عادة؛ ليؤدي وظائف هي:
1- إضفاء بعد واقعي
2- الوصف والتحليل
3- الإيجاز
وقد أفادت هذه القصة من وظيفة إضفاء البعد الواقعي، فائدة كبيرة، ولعل طبيعة ارتكازها على حكاية شعبية، هو ما دفع بها الى الاهتمام بمثل هذه الوظيفة

لعل إضفاء هذا البعد، على القصة قيد الدراسة أكثر منط ...


المستوي الدلالى
ماذا تريد مجموعة العبارات المشكلة لقصة ما أن تقول؟ هل ثمة مواقف يود منشئها أن يعبر عنها بوصفه مشاهدا ومراقبا لحركة واقع ما؟ هل هناك تأشير على خلل اجتماعي يود هذا المنشئ أن ينبه اليه؛ ليجعل من قصته رسالة موجهة لمتلقين يتفاعلون معها ، وينقلون رؤاهم من مستوي ما الى آخر؟ تأتي هذه الأسئلة لتكون مدخلا الى دور قصة ملك الجسر والنهر في النقد الاجتماعي، والأخلاقي؛ لأن العمل الأدبي في واحد من أهم أبعاده هو فعل اتصال، فهو قبل أن يكون سلسلة لغوية ودلالية " فعل تواصلي بين البشر ورسالة موجهة من شخص معين، ضمن ظروف معينة، لهدف محدد.." (19)
يدين القاص عمر الطالب في هذه القصة المجتمع برمته من زاوية تمسكه بتقاليد متوارثة تولد الكبت الذي يؤدي بالضرورة الى الانفلات ويتضح ذلك فيما يأتي:
إن الظاهرة الاجتماعية المرضية الخارجة عما كان يألفه بحكم تربيته العربية والإسلامية التقليديتين، هي ظاهرة الاغتصاب التي تفشت في مدينة محافظة:
"شاع خبر اغتصاب الفتيات، والنساء ليلا في منطقة الغابات، جرت تحريات كثيرة، قبضوا فيها على سكّيرين دائمي التسكع في المنطقة يستجديان الناس ويشربان خمر على الشاطئ، وينامان في العراء بعد أن يتعبهما السكر، حكم على أحدهما بالإعدام اعترف وهو يضحك بخبل بأنه رجل يغتصب النساء......."
ويحاول القاص أن يدين المجتمع أيضا بوصفه السبب الدافع لارتكاب مثل هذه الجرائم، والإدانة أوضح ما تكون لطبيعة التربية الذكورية التي تتبناها مدينة المدن العربية المحافظة:
"هدأت الحال في منطقة الغابات، وعادت حالات اغتصاب متفرقة عزاها المسؤولون لإحكام التقاليد، والحرمان الذي يعاني منه الشباب في مدينة الرجال هذه"
فالنقد الذي توجهه هذه القصة- في هذا المشهد- للمجتمع هو التمييز بين الذكور والإناث، واتساع أفق حركة الرجال على حساب أفق حركة النساء. الظاهرة الاجتماعية السلبية الأخري التي تتناولها هذه القصة بالإضاءة، هي ظاهرة الرشوة التي تفشت كالنار في الهشيم في المجتمع العراقي زمن نشر القصة وما قبله وما بعده:
غرق الشرطي في الضحك وأردف: مخبّل وما عملنا نحن؟
أجابه غانم بتباله: ترتشون.
ولم تكن هذه هي حدود مظاهر الفساد، فالشرطة بوصفها القوة القامعة لمظاهره كافة طالها أيضا، على نحو ينذر بالخطر:
دعا غانم الشرطة المكلفون على الجسر الى الغداء، أعد لهم ديكا هنديا وعددا من زجاجات بيرة مبردة بماء النهر أكلوا وشربوا، خلد بعضهم الى القيلولة بين أشجار الشاطئ كما استلقي غانم الى جانبهم، فهو لا يدع القيلولة تفوته.
قال الشرطي حالما : لا يعوزنا الى النساء.برقت عينا غانم( ينصب لي شركا) أجاب: من أين؟
أجاب الشرطي: اسرقهن كما تسرق النساء.
إن هذا الحوار يشير صراحة الى تماهي شخصية ( غانم) بوصفها القوة التي تفرض نفسها قسرا، وتلعب دورا يتمثل في الاستلاب، والسطو، مع شخصية الشرطي الذي كان يجب أن يكون ممثلا للسلطة الشرعية.
ولعل الإدانة الأكثر وضوحا في هذه القصة هي إدانة القمع، والطغيان، والتسلط التي نجح القاص في عرضها من خلال معادل موضوعي، تمثل في المشهد الأخير من القصة، ذلك المشهد الذي لم يتدخل الراوي في التعليق عليه ليترك للمتلقي الحرية الكاملة في تلقيه والتعليق عليه، ولا يخفي على أحد أن كل مظاهر الفساد السابقة كانت تجري في المساحة التي يتحرك بها غانم - الجسر وما حوله- وهو يعلن أنه " ملك الجسر والنهر" ذلك الملك القاهر، المصاب بداء العظمة، والجنون معا، وفي هذا ربط حيوي بين السبب والنتيجة"
قال له الشاب - أنت مجنون أجابه غانم باعتداد - أنا ملك الجسر والنهر، مخبل. قرر الشاب أن يدخل معركة مع غانم، دافعه
وفي سرعة خاطفة أخرج غانم سكينه الحاد. قطع رأس الشاب ورماه في النهر، بقي الجسد لحظات يدور، والدم ينفر منه، صبغ ملابس الفتاة، وقبل أن يهوي على الأرض، رفعه غانم بكلتا
يديه ورماه في النهر، تشبثت الفتاة بالحاجز، رمت نفسها في النهر، لحق بها غانم، سحبها من شعرها الى الشاطئ أغمي عليها، وهو يتمتم سآخذك الى قصري طابوقة من ذهب وطابوقة من فضة موشاة بالأحجار واللآلئ، وأجعل منك ملكة الجسر والنهر، وغاب في ارتعاشة لذيذة"
قبل أن أعلق على هذه الخاتمة أود أن أقول إن د. عمر الطالب يؤمن بمقولة " يمكن تحويل الأدب بحيث يلائم الجماهير، وأول سؤال ينبغي أن نلفيه على أنفسنا هو: ما الذي نقترح تبليغه، ولمن؟ (20) والتبليغ يعني بالضرورة أن ثمة رسالة من مرسل الى متلق، تحتضن هذا الفعل أو يحتضنها، وهذا الفعل( التبليغ) يتضمن التواصل، فكل نص أدبي يتموضع " مهما يكن وصفه، ضمن الفضاء التواصلي" (20)
إن اختيار هذه الخاتمة الفجائعية، جاء ليختصر البعد الأشد ظلمة في القصة، وهو بعد ظل مسكوتا عنه، على طولها، حاول القاص إخفاءه، من خلال إخفاء البعد الحقيقي في شخصية غانم، الوضيع، المشرد ، المعتوه، بل المجنون، الذي ظل مصمما على أن عظمته لا تضاهيها عظمة، وأن منعته فوق كل منعة، وأنه ملك الجسر والنهر. أستطيع القول إن هذه القصة تعد إحدي القصص العراقية التي ترتكز على حكاية شعبية، من حكايات مدينة الموصل المنقولة شفاهيا، لتبقي على الكثير من مظاهرها من خلال الوعي العالى بآليات اشتغالها، مع الحرص على إخفائها، بحيث يعيش المتلقي تفاصيلها، في الوقت الذي يتلقي فيه قصة قصيرة.

 

الملخص:
أرى أن كل نص أدبي يقترح منهجه الخاص به؛ إذا كان نصا، وليس عملا أدبيا- على وفق رولان بارت- من حيث إن العمل موضوع منته، من خلال تراتب عبارات في كتاب، أي أنه إنتاج، بينما يكون النص الأدبي فعل في كتاب، يقول بارت " الفرق بين العمل والنص..... كالفرق بين الإنتاج، والنشاط الإنتاجي"، على وفق هذا الفهم سأحاول أن أحلل القصة بما يمليه النص قيد الدراسة. وهو ما سأحرص على إثباته بعد تطبيق الإجراءات التحليلية.
تقوم قصة ملك الجسر والنهر للقاص الدكتور عمر محمد الطالب على حكاية شعبية موصلية، تمنح القصة خصوصية أولي من حيث كون الحكاية الشعبية الموظفة، بنية اشتغل عليها القاص، محررا إياها من دلالتها الأولي البسيطة. فالحكاية في القصة تأخذ إطارها العام من تاريخيتها، وتأخذ واقعيتها بعد أن يحمّلها الدكتور عمر دلالات اجتماعية، وأخلاقية، فضلا على الأبعاد الفنية الجديدة التي تمنحها عمقا آخر، يرسخ انتقالها من وضعها البنائي الأول بوصفها حكاية شعبية متوارثة شفاهيا، الى وضعها الفني الجديد بوصفها قصة قصيرة فنية ناضجة. كما تمنح هذه الحكاية الشعبية القصة خصوصية ثانية تتضح من السرد الموظف مجموعة من المفردات ذات الخصوصية الموصلية، فضلا على الأمكنة الشعبية المعروفة. ومظاهر أخري.
تلعب قصة ملك الجسر والنهر لعبة فنية تقوم على مستويين هما:
تداخل الحلم بالواقع
تماهي الشخصية الرئيسة الـ ( واقع - خرافية) الممثلة لسلطة مفروضة قسرا، مع شخصية (الشرطي) الممثلة للسلطة التي كان يجب أن تكون شرعية!
وعلى هذين المحورين يشيد د. عمر الطالب بناءه القصصي، الذي يطرح من خلاله، ما سبق من مظاهر الخصوصية. موظفا سردا يعتمد على الراوي العليم، بوصفه الموضوعي، وكأنه يريد أن يحافظ على سيادة الراوي في الحكاية الشعبية.
إن قصة ملك الجسر والنهر، علامة فارقة في بين القصص العراقية التي اعتمدت توظيف الحكايات الشعبية المتوارثة.

ــــــــــــــــــ
القصة منشورة في جريدة بابل- 13 شباط- 1993

المصادر:

1- قضايا القصة العراقية المعاصرة، عباس عبد جاسم، منشورات وزارة الثقافة والإعلام، 1982، 14
2- نظرية الأدب، رينيه ويليك، و أوستن وارين، ت محيي الدين صبحي، مراجعة الدكتور حسام الخطيب، المجلس العلى للفنون والآداب، والعلوم الاجتماعية، مطبعة خالد الطرابيشي، 1972، 284
3- قراءة في الحكاية الشعبية والقصص مجهولة المؤلف، حوار مع الدكتور عمر الطالب ، أجراه سمير عبد الله الصائغ، جريدة الزمان، العدد 2200 ، 28 / 9 / 2005 ، 11
ما الجنس الأدبي، ماري شيفير، ت د. غسان السيد، مطبعة اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1997 ، 54
4- عودة الى خطاب الحكاية، جيرار جينيت، ت محمد معتصم، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، د. ت، 54
5- قاموس السرديات، جيرالد برنس، ت السيد إمام، ميريت للنشر والمعلومات، القاهرة، 2003 ، 105
6-عالم الرواية، رولان بورنوف، ريال أونيليه، ت نهاد التكرلي، مراجعة فؤاد التكرلي، د. محسن الموسوي، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 1991 ، 76
7- قاموس السرديات، مصدر سابق، 18
8- مفهوم البناء، يوري تنيانوف، نظرية المنهج الشكلي، ترجمة إبراهيم الخطيب، بيروت، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت - لبنان، 1982 ، 75
9-مقولات السرد الأدبي، تزفيتان تودوروف، ت الحسين سحبان، وفؤاد الصفا مجلة آفاق،العدد8-9 1988، 45
10- نظرية الأغراض، توماشفسكي نظرية المنهج الشكلي، مصدر سابق، 189
11- البناء الفني في قصص محمود جنداري، أطروحة دكتوراه، كلية التربية، جامعة الموصل، 1997 ، مطبوعة على الكومبيوتر، المكتبة المركزية ي جامعة الموصل، 39
12- نظرية الأدب، مصدر سابق، 288
13-البناء الفني قصص محمود جنداري، مصدر سابق، 40- 41
14- نظرية الأدب، مصدر سابق، 280
15- القصة السايكولوجية، ليون آيدل، ترجمة محمود السمرة، منشورات المكتبة الأهلية،1959 ، 116
16- تيار الوعي في الرواية الحديثة، روبرت همفري، ت محمود الربيعي، دار المعارف، القاهرة، 1975 ، 16
17- اللغة في الأدب الحديث، الحداثة والتجريب، ياكوب كورك، ت ليون يوسف عزيز، وعزيز عما نوئيل، دار المأمون للترجمة والنشر، بغداد،1989 ، 140- 141
18- تداخل الأنواع في القصة المصرية، 1960- 1990 ، د. خيري دومة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1998، 160
19- ما الجنس الأدبي، مصدر سابق، 62
19- مقالات في النقد الأدبي، ألان تيت، عبد الرحمن ياغي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 130
20- ما الجنس الأدبي ، مصدر سابق، 78 .