موقع الدكتور عمر الطالب

 

ما الذي تركه فيَّ عمر الطالب

بقلم الدكتورعبد الرحمان بلّو

 

عندما عاد د.عمر الطالب من المغرب إلى العراق عام 1988 كنت حينها طالبا في الصف الثاني بكلية الآداب، وكانت نفسيتي متعبة بسبب انعكاس قسوة ظروف الحرب على الطلاب الذين كان لكل منهم قريب في تلك الحرب،  وكان القلق يتملك الأسر كلما حصل هجوم من نوع ما. ولم تكن إدارة الحرب بسهلة على الدولة فكانت إرهاقاتها تمس  كل كياننا بوصفنا طلبة او حتى أناسا عاديين. كنا نتلمس الحرية التي تتمرد على الواقع في المساجد حيث نجتذب أطراف الحديث بعد الصلوات ونعد الوضع القائم كالكابوس الذي لا نتخلص منه إلا بالموت الذي قد يزينه لنا بعض الثوريين من المتدينين فيعبئنا للحظة تتفلت حين تواجهنا لحظة خوف فعلية.

في مثل هذه الظروف عاد لنا عمر الطالب من المغرب وكان أصدقاؤنا من المتدينين في الكلية يحذروننا منه بزعم أنه لا ديني أو مما يؤثر سلبا على العقائد. وبوصفي من أسرة متدينة جدا وفي عمر متدين أيضا وكنت أتنقل في مساجد الموصل بحثا عمن يقرئني القراءات السبعة حتى عثرت على الشيخ إبراهيم المشهداني، كان موقفي من هذا الطارئ غريب الأطوار يتجاذبه موقفان أحدهما أنه يبدو مثقفا ينقل لنا عالما جديدا فرغم أنه كان لا يدرّس الصف الثاني إلا أني كنت أحضر مع أصدقائي هشام ومحمد محاضراته للصف الرابع في النقد. وكانت موسيقى صوته وطريقته العفوية الواثقة من نفسها تجتذبني إليها لاشعوريا. أما الموقف الثاني فكان الخوف منه أن يؤثر على إيماني ولا سيما أني كنت أسمع من طلاب الصف الرابع أنه تتساقط منه بعض الانتقادات لبعض المقدسات مما لم يكن عمري يسمح بسماعها أو بوجودها أصلاً. فحين قدمت من القرية لأستأجر غرفة في الموصل للسنة الدراسية 1988-1989 ذهبت إلى أحد الأحياء فرأيت في إحدى الغرف قنينة خمر فارغة فأذكر أن وجهي اصفر وازداد قلبي خفقانا حتى كأن الدنيا ستنقلب مما أستغربه من نفسي الآن، وأذكر هذه الحكاية لأذكر كم كان جديدا علينا ذلك القادم المتحرر المتصالح مع طبيعة الحياة غير العابئ بأفكارنا عنها.

لم تمض إلا سنة واحدة حتى جاء عمر الطالب لتدريسنا النقد فابتدأ محاضرته بقصيدة لنزار قباني:

وصرخت معتديا قفي

وزعمت لي أن الرفاق أتوا إليك

أهم الرفاق أتوا إليك

أم أن سيدة لديك

تحتل بعدي ساعديك

لا تعتذر يا نذل لا تتأسف

أنا غير آسفة عليك

لكن على قلبي الوفي

وطلب منا أن نلخصها فقمت بتلخيصها له فقال ممتاز، تلخيص جيد. كانت تلك أول لحظة تعرفه بي لأني كنت في الماضي أدخل دروسه ضيفا فألتزم الصمت . ثم أصبحت علاقتي به تزداد وإعجابي به لاشعوريا يقرضني ذات اليمين وذات الشمال؟ ومما قاله لنا إبان أوج تأليه الشخصية السياسية وتطبيق الفلسفة الستالينية في العراق عام 1988 قال لنا "مرة كنتو باليونان قيعد على عتبي وجا غجال ريكب سياغة غوزغايز ونزل السواق فتح الباب وجو يدخلون وانا قيعد دنقتو وعبغو من فوقي، سمعتو ويحد بالشارع حكى علينو قتولو بالانكليزي او بالفرنسي منو هذا قال لي هذا رئيس الجمهورية" فقال عمر معلقا" هذي الديموقراطية ما جمال عبدالناصر لما يزور منطقة قدامو 22 ساف ماطور سكلات وورانو 22 ساف ما طورسـ.. إذا انت محبوب الشعب ليش تخاف؟"

لا أحد يتخيل مدى ثورية هذه الكلمات في تلك اللحظة وشدة وقعها على الطلاب،؟ بسببها جاء العميد صلاح الدين في اليوم التالي وقال ماذا قال دكتور عمر البارحة لديكم ؟ فلاذ الطلاب بالصمت! وقال هل نال من القيادة او الدولة؟ فقلنا لا. قال حسنا. وخرج.

كانت محاضرة عمر الطالب عالما آخر بالنسبة لنا ما نزال بعد مضي أكثر من عشرين سنة عليها نتذكرها ونحس أنها مذاق خاص من مذاقات الحياة التي لا تُنسى.

ذهبت إليه إلى الغرفة وقلت له دكتور انا أريد أن أتعلم؟ فقال فكرة جيدة. سأعطيك أسماء كتب تقرؤها وبعد أن تنتهي منها أعطيك غيرها وهكذا. فقلت حسنا فقال إذا بدأت بدراسة النقد فابدأ بقراءة "قواعد النقد الأدبي" للاسل آبر كرومبي ثم بـ"ـالنقد الأدبي عند العرب" لإحسان عباس ثم بـ"ـالنقد الأدبي الحديث" لمحمد غنيمي هلال" وحين تنتهي من هذي الكتب فتعال إليّ . وكانت تلك الكتب منهجية أيضا في بعض مراحلنا لكن لأنه بدأ بكتاب آبركرومبي ذهبت فاستعرته وما تزال فكرته التي ناقشها من أن ملكة النقد تختلف عن ملكة الإبداع وأن سقراط كان أول من حدد وجود تلك الملكة عالقة إلى اليوم في ذهني.

في الصف الرابع لم أكن أعبأ بأي محاضر إلا عمر الطالب باستثناء حازم عبدالله خضر رحمه الله الذي كان يجتذبنا بصدق تدينه وقيمه العليا، وإن كانت عقولنا منجذبة بلا مقارنة إلى عمر الطالب. في الصف الرابع كنت أكتب كل كلمة يقولها وكل رأي من آرائه في الشخصيات الفنية والأدبية والعلمية.

ما يزال رأيي في الشعراء إلى اليوم مأسورا منقادا برأيه رغم أني أحفظ اليوم عشرة آلاف بيت شعر ولكن كان يحب امرأ القيس وطرفة وأمل دنقل وعبدالعزيز المقالح. ورغم أني لي شعرائي الكبار الذين لا افضل عليهم أحدا وهم الثلاثة الكبار أبو تمام والمتنبي والمعري حتى إني أومن إلى لحظة كتابة هذه السطور أن الذي يسيطر على شعرهم فهما وإدراكا لمراميه يسيطر على الثقافة العربية كلها، إلا أني ما أشك أن شرائي لديوان عبدالعزيز المقالح ولديوان أمل دنقل وحفظي لبعض أشعارهم و"اعتقادي" دون تساؤل أنهم من أكبر شعراء العربية سببه التأثر بأستاذي عمر الطالب.

وبصدد شوقي كان معجبا فقط بموسيقاه الشعرية، ومن المغنين كان يحب فيروز، ولو فتشت اليوم حاسوبي لما وجدت فيه تسجيلات لغير فيروز. وبرغم أنه كان يمتعض من طول اغاني أم كلثوم حتى قال لنا ذات يوم "اشون طيق تسمع اغنية من ساعتين اذا ما قتحشش او قتلعب ازنيف.؟"

وقال :"نحن لما كنا شباب حبينا فيروز كثير لأن اغانيها خفيفة وسريعة وقصيرة، مثل الماي البيغرد تبغد على قلبك وتغوح"

وقد علمنا أن نقاوم المسايرة في الأذواق الفنية، (قرأت فيما بعد لماسلو أن مقاومة المسايرة أحد أهم صفات الأساتذة الكبار في العالم) فكان يقول لنا لو أجرينا استفتاء اليوم بين فيروز وكاظم الساهر لفاز كاظم الساهر بتسعة أضعاف. ! هذا ليس دليلا على فشل فيروز ونجاح كاظم الساهر . هذا دليل على انحراف الأذواق فحسب.

وقال من ضمن المغنين العرب العشرة الأوائل أنا أضع فريد آخر العشرة. وكل من هو دونه ليسوا فنانين أصلا. ثم قال: فريد يطربك ويستهلكك ، لا يبعثك على التأمل ولكنه يطربك, وهذا فن وإن كان دون مستوى الفن الباعث على التأمل.

وممن كان يحبهم بكثرة من الفنانين: سناء جميل، كان يقول لنا سناء جميل قالت لي أنا حين أريد أن أمثل دورا شعبيا أستأجر غرفة في حي شعبي وأعيش شهرا حياة شعبية حقيقية. وكان ينتقي لنا بعض اللقطات فيمثلها ببراعة، قال ذات يوم هل رأيتم حلقة البارحة من مسلسل "الراية البيضا"؟ ولأني كنت أعيش في بيت عمتي وهم يتابعون التلفزيون فقد كنت ممن شاهدها فقلت نعم. قال هل رأيتم سناء جميل وهي تنظف أسنانها بإصبعها؟ كانت مذهلة. شوفوا ياشباب حين تكتب رواية فلا داعي أن تسهب في وصف فقير أصبح غنيا. اخلق مشهدا واجعله يمشي مع زوجته وهي تلبس ذهبا كثيراً. الغنية بالأصل تلبس بروشا غاليا وصغيرا وجميلا أما الفقيرة واغتنت فتلبس ذهبا لتقول للناس شاهدوني! وربط القضية بتنظيف فضة المعداوي لأسنانها بإصبعها. قال كانت سناء جميل مذهلة!

 

التحرر الفكري واحترام الذات

ورثنا عن ثقافتنا الصوفية أن نحتقر أنفسنا ومن تراثنا أن نتواضع إلى حد الضعة، ومن مجتمعنا الذي ينتقد كل شيء فيخلق فينا عُقدا لا حصر لها أن نكون "صنميين" بتعبير د. عمر، وكان معظم أساتذتنا اجترارا لتلك الرؤية التي نتحدث عنها. فبينما كنا نسمع الأستاذ سالم الحمداني يقول "وقال شيخ الشيوخ الملم بجميع العلوم والمثقف العملاق العقاد..." كان د.عمر يورد لنا كلاما للعقاد فيقول : "شوفوا يا شباب أنا ما كثير كثير مع العقاد"، كان يحطم لنا الصنم تلو الصنم. كان يغضب على النقاد العرب القدامى عيبهم على امرئ القيس استخدام مفردة "مستشزرات" في وصف الغدائر، فكان يقول بكل جرأة:"النقد القديم سيطر عليه اللغويون وعلماء الدين، وبرغم أن ثقافتهم اللغوية جدا عالية بقدر ما يكونون ضعفاء الأذواق!" كان استبشاعهم للفظ مستشزرات يدل على أنهم لا يرون العلاقة بين صعوبة المفردة واختلاط الشَّعَر وارتباكه!

وكان يحاول أن يتجنب الاصطدام بالفكر الديني وإن كان متلقيه يدرك أنه ممن لا يعبأ كثيرا به، وممن أخلد إلى  الأرض في طريقة تفكيره.

شعر الدكتور عمر باهتمامي بدرسه وكان يثني عليّ كثيرا، ومن الشهادات التي أعتز بها ثلاث شهادات منه:

- أولاها قالها لي أمام الطلبة : من بين أربعين سنة قضيتها في التعليم داخل العراق وخارجه ما مر عليّ مثلك!

- وقال لطلبة المرحلة التي تلت مرحلتنا : انتم لا تفهموني، قد تفهمون 30 % أو أقل ، العام الماضي كان عندي طالب اسمه عبدالرحمن فهمني 90%.

ولكن في الماجستير مرت بي ظروف عصيبة من الفقر وصعوبة العيش ومشكلة اجتماعية مع أحد أقربائي فلم أتمكن من أن أكون عند حسن ظنه، فكتبت عن "التاريخ [مفهوما] في الشعر العراقي الحديث بين الانقلاب العثماني وبين الحرب العالمية الثانية" ولم تكن بالرسالة التي تتناسب ورؤية أستاذي عني ، وكنت قد حاولت إبانها أن أشتغل في التهريب لتوفير فرصة عيش سريعة وسهلة وإن كانت مغامرة، وقد تألم من صنيعي الدكتور عمر حتى ذكر أني لم اعجبه في الماجستير في مناقشة الدكتوراه وهو يدافع عن رسالتي في الدكتوراه التي أحبها وأشاد بهل في محاضرات الدراسات العليا فيما بعد.

- لكنه أحس بحاجة رسالتي إلى الدفاع فقام بإلقاء خطبة تمجيد في قدراتي التي يعجب بها، ومن ضمن ما قاله مما لا أنساه حتى الموت "طالب يمتلك ثقافة تراثية تفوق عمره بكثير، ولولا أنه عنيد ويضيع نفسه لكانت له اليد الطولى على الثقافة العربية". كانت كلمته تعويضا عن شدة بعض الأساتذة عليها في حينها فمنحوني درجة جيد. وهي وإن كانت قد أصبحت تاريخا لكن عنصر الذاتية في تقويمها قد أدركته حين قدمت إلى الدكتوراه حيث وجد أستاذ قد منحني مقبول وثان جيد وثالث ممتاز فكانت النتيجة جيد مما يدل على وجود عنصر ذاتي غير موضوعي في تقويم اللجنة.

 وحين جاءت الدكتوراه كتبت عن أبي العلاء المعري الشاعر الذي كان تأثيره في حياتي يقارب تأثير الدكتور عمر نفسه، وبسبب أن سلم القيم لديَّ شكَّله الدين فإن "أبا العلاء المعري" بسبب تساميه على الشهوات وحرمان نفسه منها أكثر احتراما في قلبي من سواه ، فموقفه من الشهوات مبدئي تجلى في مثل قوله:

بين الغريزة والرشاد نِفارٌ  *  وعلى الزخارف ضُمَّت الأسفارُ

وهو يعني أن تهذيب الغريزة يغنيك عن الكتب الدينية كلها لأن "الأسفار" لديه قناع عن كل كتب الدين، و"الأحبار والرهبان" في شعره قناع لكل علماء الدين.

وكنت قبل ذلك في محاضرة من محاضرات الدكتور عمر قد تعرفت على الكاتب المغربي محمد عابد الجابري رحمه الله ، فكان فتحا جديدا في حياتي، وهو وإن كان الدكتور عمر يقدم عليه عبدالله العروي إلا أنه كان الأستاذ الأول في حياتي أنا.

وأذكر أنه حين جاء إلى أبو ظبي عام 2006 أرسل إليّ ايميل بقدومه فجئته من رأس الخيمة رغم ضيق الوقت في حينها. كان لقاء الجابري أمرا أعتز به في حياتي وقد سألته عن كثير من الأشياء التي استوقفتني من خلال قراءتي لأعماله وسألته عن سبب حنق بعض الكتاب عليه كجورج طرابيشي وحسام الآلوسي، وسألته عن سبب تقديمه لابن رشد على سواه وأن رؤيته أن ابن رشد هو الحي الوحيد في حياتنا الفكرية..

كان فضل الدكتور عمر الطالب عليّ أكبر من أحصيه في هذه العجالة، وكنت أقلده في كلامه حتى أصبح تقليده جزءا مني، ولم أشعر بذلك حتى أخبرني أحد أصدقائي بأني أقلد عمر الطالب في كلامه فعليّ أن أنتبه إلى نفسي قبل أن تصبح شيئا سلبيا في شخصيتي!

حين قرأت في الفلسفة وتاريخ العلم فيما بعد أدركت أن الأستاذ الكبير كالجابري يعيد تشكيل قارئه كلية ، فكأنه يشكل له نظام تشغيل جديد لمخه، وهذا الشيء أستطيع أن أقوله بكل ثقة عن عمر الطالب.

ولا يمكنني الادعاء أن كل تأثيره عليّ كان إيجابيا لكن تاثيره عليّ كان نافعا من وجوه كثيرة وكان خالدا إلى هذه اللحظة وإني لأرجو الله له الغفران لأنه كان معلما كبيراً.

 

هل له الفضل في هبة نفسي كلِّها للعلم

ليس من البرّ نسيان المؤثر الأول وهو والدي الملا محمود غفر الله له، فهو الذي غرس فيّ حب العلم منذ الطفولة، فقد كان يغني عليّ وهي أول ما أعي من الدنيا:

تعلّم يا فتى فالجهل عارُ  *  ولا يرضى به إلا الحمارُ

وعلمني القرآن الكريم ومعاني كلماته ، ما جعلني فريدا بين نظرائي في قدراتي اللغوية إلى اليوم، لكن هل تأثرت بالدكتور عمر حين كنت أداوم بثلاث كليات في نفس الوقت؟

كان الدكتور عمر طالبا في القانون واللغة العربية والاقتصاد في خمسينيات القرن الماضي؟ وكنت انا طالب دكتوراه في الأدب العربي، وطالب بكالوريوس في الترجمة، وطالب علوم حاسبات في الكومبيوتر،في أواخر التسعينيات وحين علم رئيس الجامعة (د.قبيس) فصلني من إحداهن وأبقاني في الترجمة مع الدكتوراه لأني كنت قد وصلت المرحلة الرابعة!

أكملت علوم الحاسبات فيما بعد بجامعة كريستنستود، ودرست بعدها ماجستير في اللسانيات الحاسوبية بجامعة غوتنبرغ، فلا أستطيع أن أقارن تأثير د. عمر عليّ في هذا الجانب بتأثير والدي، ولكن لا بد أن يكون له دور قل أم كثر.

 

قوّة عمر الطالب وضعفه

اكتسب الدكتور عمر ثقافة واقعية لم يحظ بها إلا القلائل بسبب غنى أسرته وسفره إلى مصر في أورج غناها وعطائها الثقافي، قال لنا ذات يوم ذهبت إلى مصر عام 1962 وأخذت معي 1000 دينار عراقي فصرفتها بأربعة آلاف جنيه مصري عشت بها أربع سنين عيشة ملوك وأرجعت نصفها إلى العراق. وكنت أحضر أي مسرحية تعرض وأي فلم سينمائي وأشتري أيّ كتاب جديدا يصدر ، علاوة على أني استأجرت شقة على النيل وكان عندي خدامة وكنت أعزم الطلبة العراقيين كل جمعة!!

وكان لقراءاته المتنوعة وانفتاحه الفكري دور كبير في اكتسابه لثقافته ورؤيته، بالإضافة إلى تعدد اهتمامه في الإنسانيات كلها، ولأنّا قد حظينا به في آخر عشرين سنة من حياته فقد حضرنا عصر استقراره الفكري واكتمال رؤيته.

كان أبو العلاء المعري قد قال:

وفوائدُ الأسفار جمع السِّفر     في الدنيا تفوق فوائد الأسفارِ

يعني أن الكتب أكثر تثقيفا من السفر ورؤية العالم في حقيقته، وهذا أمر قابل للنقاش لكن عمر الطالب قد حظي بالأمرين معا، القراءة الكثيرة والسفر بكثرة، فوفر له ذلك سببي الثقافة الرئيسيين.

كان لمفهوم ثقافة شبه قداسة لديه، فكان حين يذكر شيئا ما بتحسُّر يقول ماذا اكتسبت منه؟ ثقافة! لم أكتسب من ذلك أية ثقافة، فالثقافة لديه كأثمن أشياء الوجود.

ولكن طاقته اللغوية لم تكن بالقوية، وكان يحسّ بذلك، لكن لم يكن يظهر أثر ذلك جليا على شخصيته بسبب أنه تخصص في الأدب الحديث الذي يبالي بالصورة والخيال والكليات أكثر من الجزئيات.

ومع ذلك فقد كان يعرف للنقاد القدامى من اللغويين الكبار كابن قتيبة حقهم، أذكر أنه ناقش طالبا كتب عن عماد الدين الأصبهاني ففضّله على ابن قتيبه، فقال له د.عمر في المناقشة :"ابن قتيبة عنده رؤىً لا انت ولا العماد تفهمونها"!

وقد كان أوج حيويته إبان عودته من المغرب ، ثم أثر وضع الحصار عليه، فأذكر أني قلت له ذات يوم على انفراد بعد محاضرة في الماجستير :"إن محاضراتك في البكالوريوس كانت أكثر حيوية وأغنى ، فكأنه أيدني دون أن يوافق تمام الموافقة.

لكن هبته لنفسه كلها للثقافة ولقاءه مع أساتذة كبار كان يشيد بفضلهم كعبدالقادر القطّ ومحمد مندور وغيره،  قد جعلته يعرف أساطين كل حقل من الإنسانيات،. كان لعبدالقادر القط تأثير ملحوظ يعترف به عمر ويشيد به، فقد قال ذات مرة: "أنا لو لم أقابل عبدالقادر القط لما أصبحت أنا"

أما قوته من حيث كونه مدرسا فسوف أحاول أن أتأملها من حيث وقعها عليّ. كان يتحمس للفكرة أو للشخصية ويوصلها إلى طلابه كما يريد. كان لحماسته وقع وتأثير يشل فكر المتلقي ويجعله محتوى من قبله، وبرغم أنه كان يحذر من الوقوع تحت تأثير الناقد إلا أنه لم يكن من السهل على طلبته أن يقاوموا رؤاه بعلمية.

ومن الأسباب التي جعلته فريدا في عيون طلابه انه هرطقي نوعا ما، فالهراطقة لا يتحدثون عن الخبز وعن شؤون الأسرة بل عن الحرية ومعنى القيم الإنسانية، فهو هرطقي مثقف إذن.       

من هذا الباب كان تأثيره يفوق الحصر

ولست أعلم كثيرا عن تأثيره على طلابه إبان شبابه، إلا أني حظيت ببعض طلابه المعجبين به وهو يشتغل سائق تاكسي وأراني صورة له مع الدكتور عمر وقال كان يدرسنا اقتصاد. أقول ذلك رغم أن الدكتور عمر قد حدثني كثيرا حين كنت أخرج معه إلى مقهى "كوكب الشرق" في غابات الموصل وأجاذبه أطراف الحديث في شؤون الثقافة، وكان يقدس تجربته وكيف تغلب على أي مشكله.

كان حديثه عن تجاربه الخاصة حاملا لبعض الناس على اتهامه بالنرجسية وعبادة الذات، ولكن والحق يقال حتى هذا الجانب كان يمثل ستراتيجية تعليمية من نوع ما. ولست أناقش هنا مدى تحرره منها بل مدى تأثيرها على طلابه وأنا من بينهم.

نعم، جانب التألق في عمر الطالب ليس قدراته التحليلية ولا سيطرته على مناهج تحليل النصوص الحديثة ولا قدرته اللغوية والسيطرة على النص العربي القديم، أبدا ، فقد كانت قدراته فيها عادية ودون الطموح من بعض الجوانب، لكن موضع التألق الفريد، والإضافة الحقيقية إلى العلم والتعليم هو رؤيته وشخصيته وتجربته وصفاته الفريدة في الإلقاء واستخدام الخيال والثقافة الواسعة.

 

هل كان يفتقد إلى الموضوعية

عمر الطالب إنسان والإنسان بعيد عن الكمال في كل جانب، ولكنه إنسان يفخر العراق أن يكون من أبنائه وتفخر الموصل الحدباء أنها أنجبته. فإذا كان تقييم أي شخص أو موضوع إنما يكون بمقارنته بسواه، فإن عمر الطالب متألق من حيث كونه معلماً ومن حيث كونه مثقفا مثريا للرؤية ومحفزا لشخصية متلقيه وطالبه على التأمل.

لقد استفدت كثيرا منه لأني لم أعبأ بالجانب الشخصي فيه، فلم أسأله ولا مرة واحدة سؤالا خاصا لا عن سلوكه ولا عن اعتقاده الجازم في الوجود والدين، لكنه سألني ذات يوم ماذا تعتقد فيّ : فقلت له: "أنت تنظر إلى كل تراث الإنسانية من مدارس ومذاهب وافكار وشخصيات نظرَ المتفرّج، وتأخذ منها ما يحدث لك نفعاً،،" فقال لي -ولا أدري أكان يجاملني أم لا- "أنا في الحقيقة مندهش كيف عرفتني مع العلم أني لا أصرح بذلك!" ، كانت تظهر عليه أحيانا علامات افتقاد الموضوعية ولكنها مغمورة في بحر فضله وفرادته.

أسأل الله أن يتغمده برحمته فبرغم أنه لم يؤمن بأن هدف الحياة هو الطقوس الدينية إلا أنه كان يقول "لم أوذ بحياتي نملة ". وقد كان وجوده ضرورة للناس من عدة جوانب، وهو فقير إلى رحمة الله وهو تعالى غنيّ عن عقابه.