العودة للصفحة الرئيسة موقع الدكتور عمر الطالب

 

عمـر الطالـب كشـف الوجـه الآخـر للمدينـة الصامتـه

آخـر الـرواد يغـادر الحيـاة كمـداً

بقلم الكاتب أسامه غاندي

osamagandi@live.se

 

لم التق الراحل الدكتور عمر الطالب كثيرا ولا درسني في إعداديه أو جامعه. ولكني التقيت به في ثلاث مناسبات كانت كثيره لأكون عنه الفكرة الواضحة، وهذا لا يعني أنني لم أكن أتابع اخباره وانتاجه عن كثب، التقيت به سنة 1981 عندما كان سكرتيرا لتحرير مجلة الجامعة التي تصدرها جامعة الموصل حيث كنت اكتب لها بين الحين والآخر في الزاويه الطلابيه التي كان يشرف عليها الأستاذ فاتح عبد السلام آنذاك، في تلك المناسبة نظر إليّ الراحل بازدراء كمن يري قملة تتنافس مع فيله في ميدان سباق. ولولا وجود المرحوم الدكتور جليل رشيد فالح أستاذ البلاغة في كلية الآداب والمسؤول عن النشر والذي كان يري في أملا كما كان يقول لما نشر لي عمر الطالب شيئا.

 

 التصوير الفني

المناسبة الثانية كانت قبل عدة سنوات في مكتب رئيس تحرير مجلة الموصل التراثيه التي كانت تصدر في الموصل حيث دفع لي رئيس التحرير مجموعه من المواد والمقالات لغرض المراجعة وبيان الصلاحية كوني عضوا في هيئة التحرير، وكان ضمن المواد قصة قصيرة لعمر الطالب بعنوان (المطيّرچی).

كيف لي أن أراجع عمل أدبي لعمر الطالب وكيف لو انه عرف أن مثلي راجع عملا لمثله. ألا يكفيه ما يعانيه عدم العرفان من الزملاء ليصل إلي الحد الذي يصحح له من كان بمستوى تلميذه، لكن رئيس التحرير شدد علي التصحيح بدعوى أن هناك عبارات في القصة تخدش الحياء العام، مع أني كنت أرى القصة تصوير فني لا مانع أن يؤتي بالصيغة المناسبة التي تعزز العمل على قاعدة من يقول ان الفن للفن التي طالما آمن بها الراحل عمر الطالب.
وسلمت القصة كما هي مع كتابة ملاحظة صغيره علي المسودة توصي بتهذيب العبارة الواردة في النص أو أن يرمز لها برمز. واتفق أن علم المرحوم عمر الطالب بذلك وعرف أنني من كنت وراء الملاحظة ورآني ولكني بادرت فورا بالاعتذار. وكان هذه المرة أكثر هدوءا واخذ يتجاذب معي أطراف الحديث بمواضيع عامة وأخذ يسألني أين انتهي بي المطاف مع الأدب.
في المرة الثالثة التقيته في كلية الفنون الجميلة في جامعة الموصل حيث كان يدرس تاريخ المسرح فلما رايته تحاشيته لأني أحسست أن الرجل لا يريد أن يقتحم احد عالمه، ولكنه هو الذي سلم علي هذه المرة واستقبلني ببشاشة وتبسط معي في الحديث وبدا جذلا بلقائي، وقال لي كنت في احد صالونات الحلاقة اتصفح بعض الجرائد قبل أن يحين دوري في الحلاقة وقع نظري علي مقالتين لك في جريدة فتى العراق لفتتا نظري إلي قدرتك على الكتابة وذكرتني بشبابي، المقالة الاولي كانت (الصعلكة والصعاليك في الموصل) ويبدو انه أعجب بها لدرجة انه اخذ يتحدث عنها كثيرا وعقب أن مقالة كهذه لا تنشر في جريدة محدودة الانتشار والتوزيع . والثانية كانت (أدركته حرفة الأدب) تصور معاناة الأدباء والمثقفين في الموصل على مر العصور.
والظاهر أن المقالة أصابت وترا حساسا، أو شعور بالغبن والعقوق كان يحسه. وتكلم معي كثيرا في حديقة الكلية ولم أشأ أن أقول له أن ما كتبته عن أدب الصعلكة في الموصل كنت أنت رائده وفارسه (ولا اقصد طبعا بالصعلكة الفقر والتسكع والعطالة عن الجاه إنما أقصد المعنى الأدبي). لم أره بعد ذلك وسافرت بعدها إلى أوربا.

عاش عمر الطالب محنه حقيقية في مدينة كالموصل تأكل المثقفين والأدباء كما قال المرحوم الشاعر شاذل طاقه. وحيث لا مكان لمبدع او أديب متميز فيها. وحيث السلوك الشخصي حتى لو كان مصطنعا، وحيث السلالة والارومة الكريمة وان كانت ملفقه، هي المعيار الوحيد للفضل والنباهة والاحترام وحيث المراءة واصطناع الحكمة والوقار هو السائد فيها، وعمر الطالب الثائر المتمرد أراد أن يذهب إلي الجهة الأخرى من الرؤية. هو من جيل الخمسينات بكل ما فيه من ثوره وتحرر وكل ما فيه من حداثة وانعتاق لم يغفر له بقايا الجيل الماضي فلاحقوه في الحاضر ووسموه غمزا بكل نقيصة أو تحلل.

وهو بدوره أثار حفيظتهم وكسر كل أصنامهم وحصرهم في زاوية ضيقه ظلوا فيها كالبكتريا المجمدة.
عمر الطالب من جيل أسس لمعنى الحرية والوطنية والانعتاق. وبدأ الإنتاج الثقافي البكر مع ذلك الجيل. والجيل الذي عرض الحياة كأدب وفن وثقافة كما هي بلا نفاق أو دجل وبلا دم. وهو الجيل الذي أسس لمعنى الثقافة والحوار مع الآخر. وكان قدر الأديب أن يكون له مع السوق والسوقيين ارتباط وصله يأخذ منها وتأخذ منه، وهكذا كان عمر الطالب. أراد أن يشرح الوجه الآخر للمدينة والزوايا المظلمة فيها فصور في مجموعته (خمسينيات أضاعها ضباب الأيام) الرجل الشاذ والعجوز المتصابية وصور أخرى موجودة في مجتمع الموصل كونه مجتمع قديم وخليط. ومثلما فعل نجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس في مصر. تأثر هؤلاء ومنهم الطالب بالموجه الفنية القادمة من مصر.

في الجامعة التي قدمها عمر الطالب معبأ بكل ما استخلصه من الحياة وجد فيها الارثودكسية الاكاديمية التي تأبى أن يمم وجهها للبحث العلمي دون أفكار أبويه مسبقة فكانت الجامعة أول من عرف عمر الطالب للجمهور وحصرته في وضع اجتماعي معين وصبغة ايدلوجية معينة. لم يكن عازفا عن الخلق حينما يكتب أو يتكلم لكنهم رأوه كذلك (حتى أن قريبه في الجامعة كان يراه بحاجه إلى خلق). ولم يكن ضد أي توجه سياسي ولا معه كذلك ونأى بنفسه أن يحشر قلمه وأدبه لمصلحة فئة سياسية أو ضدها.

لهذا فهو قد تقاعد من التدريس مبكرا واستغنوا عن خدماته رغم حاجتهم وحرصه على الاستمرار في التدريس فانتقل يحاضر هنا وهناك. والعمر في الأدب والثقافى مؤهل مطلوب وله حوبة كبيره كالنبيذ المعتق كلما مر عليه الزمن ازدادت نسبة الكحول فيه فلم يرحموا عمره ولا رحموا الأدب المعتق الذي يحمله. فأحس عمر الطالب وهو في سن متقدمه انه لم يكتشف بعد، وهكذا ظل باحثا عن الاكتشاف في مرحله متقدمه من العمر. ولأجل ذلك عاش مراهقة مستمرة حتى آخر لحظه، كما أن موجة الثقافة الآحادية التي سادت الموصل في العقود الأخيرة نتيجة غياب هؤلاء عن الساحة طمرته تماما وطمرت معه ومع غيره التاريخ العريق للمدينة، واختصرته في تمتمات يؤديها العرافون يغذون بها العقول المتعطشة للثقافة.

 

ذاكرة ووجدان

والان رحل عمر الطالب وكلما رحل رجل من ذلك الجيل رحلت معه الذاكرة والوجدان. وينبغي ان نأسف لرحيل هذا وذاك حيث لم يتبق من الرواد إلا القليل، البعض أكلته الأرض والباقون أكلهم الأسى قبل الموت حيث الغربة وحيث الكساد وألا يجدوا أحدا جديرا بهذا التراث.
حدثني عمر الطالب رحمه الله وهو في السبعين من عمره آنذاك وربما اكبر كيف انه دخل إلي مقر اتحاد الأدباء في نينوى وقابله رئيس فرع الاتحاد بالملابس الداخلية واخذ يتحدث عن الرومنطيقية والكزبرية والفاصوليا، فيالثقافة الهتلرية (النص للمترجم له) ولا ينسي الرئيس أن يمد يده بين فقره أخرى ليحرك الساكن. تأسف عمر لذلك المنظر واستذكر قول الشاعر الذي هجا بني تغلب:

والتغلبي إذا أراد الحديث            حك استه وتمثل الأمثالا

ما كان لي أن اكتب في رثاء عمر الطالب وقد مضى علي وفاته شهور. لكن الذي حفز هذه الرغبة مقال في كتاب للدكتور سيار الجميل والذي غمز فيه من قناة خفيه في عمر الطالب كونه اخطأ وأصاب، نعم هو ربما اخطأ كبشر ولكن ليس لأنه لم يذكر (البعض) في كتابه موسوعة أعلام القرن العشرين. وليس لأنه عارض رغبة (البعض) في كسب عمر الطالب لتيار سياسي معين كان (البعض) من اشد المتحمسين له وكانت اغلب خلافات عمر مع الجامعة هو عزوفه عن هذا التوجه الأيدلوجي الذي كان عمر يري نفسه فوق التوجه ويتقاطع مع الهدف السامي للأدب. وعاش عمر مغمورا لأنه لم يصبح جزءا من المؤسسة السياسية.

وأخيرا نقول لاشيء يفرض على الذاكرة كما ان الذاكرة تستطيع أن تحفظ رجال مثل محمود الملاح وخير الدين العمري وذو النون الشهاب وإبراهيم الجلبي وزكي الملاح وعبد المحسن عقراوي وعمر الطالب بدون كد وعناء وقد يصيبها الكد والملل أن تحفظ شعراء ومتأدبينا أفرزتهم الثقافة الجديدة مع احترامي الوافر لطاقاتهم ولتتسع صدورنا لمن تبقي من الرواد فهم الثقالة الاخيرة المرمية في هذا البحر.