العودة للصفحة الرئيسة موقع الدكتور عمر الطالب

 

عمـر الطالـب وقدسيـة المكـان

 

بقلم الكاتب والصحفي الأستاذ أسامه غاندي

osamagandi@live.se

 

 

 المكان حاضر في ذهن الموصلي كَوَثن مع ما يثيره من ذكريات وحنين وما يمثله أحيانا من ثراء تاريخي أو تعلق حضاري, إلا أن الصنميّة طاغية فيه إلى حد الإعاقة, وهذا المكان له إملاءات كثيرة وشديدة الوطأة ومعطلة أحيانا للأديب ومعوقة له في الوصول إلى حالة الإبداع. يخضع لطقوسه ويستسلم لإيحاءاته ويشكل وجهاته العامة دون أن يسمح له أن يتدخل في تركيبته. لهذا يعتبر نقد المكان أو التعقيب عليه أو وصفه بما لا يتفق مع  الصورة المأخوذة عنه (المعدة سلفا في الوعي الجمعي ) يعتبر مساس خطير بقدسية كل ما في المكان من أشخاص واعتبارات لأنها من انتاجاته. ولهذا لا تتوفر ابداعات أدبية موصلية في إنتاج أدباء الموصل في تشريح المكان ورسم شخوصه بطريقة واقعية. ليس كعقم أدبي أو عدم استطاعة بقدر ما هو رغبة في عدم الصدام مع التوجه الخلقي والحشمة التي لا تتيح  للقلم أن يدخل زوايا مظلمة ليصف ما يجري. وظل المكان يستنسخ صوره النمطية عبر الأشخاص دون أن يوازيه فعل زماني يؤثر في الاحداث, وظل المكان  المشكل الأبرز لشخصية الأديب الموصلي لقوة تأثير البيئة المكانية التي تتحكم فيه. ولهذا ظل الأديب الموصلي يقدم على أنه أديب محلي لم يتجاوز بعد عقدة الارتباط بالمكان.

لم يكن الراحل عمر الطالب حالة شاذة عن هذا الارتباط رغم أنه تمنى ذلك, وتملكه إعجاب شديد لما كان يطرحه الروائي نجيب محفوظ في رواياته المكانية خان الخليلي وبين القصرين والقاهرة الجديدة والروايات الأخرى، وكان يرى الطالب إن نجيب محفوظ يشرِّح المكان ويفضح الشخوص في الحارة أكثر مما يسرد الوقائع سردا أدبيا, وكثيرا ما أراد أن يقوم بعمل أدبي ينحو به هذا النحو, الا أن تجربته في مجموعة (خمسينيات أضاعها ضباب الأيام) والضجة التي قامت ضده أرسلت إليه إشارة واضحة إلى انه أكاديمي وقور ويحتم عليه هذا الوضع أن لا ينغمس في ابتذالات الأدب الرخيص وان يكون أدبيا إذا خدم الأدب هذا المركز وهذا المكان, أو إذا خدم الأدب واحترم طقوس المكان والتي يأتي في مقدمتها حالة الاعتبار الاجتماعي والملائكية وووووو, مما جعله أديبا مع وقف التنفيذ أو صاحب مدونات وعظية, وظلت هذه الرغبة وهذا الهوى يطوف بخياله من حين لآخر, وعرفت هذا الهوى عنه في حديثي معه في حديقة كلية الفنون الجميلة بالموصل, وقال إنه كان يتمنى أن يكتب رواية عن (دكة بركة) ودكة بركة هذه حي شعبي في الموصل تعتبر محلة (عبدو خوب) المولود فيها عمر الطالب إحدى تنظيماتها (كما كان يتندر بها أهالي دكة بركة), أو قل انها تعتبر عاصمتها الصناعية, ولم يأخذ الأمر اهتمامي وحسبته حنين إلى مرابع الصبا والطفولة الاولى, إلى أن قُيّض لي أن أعلق في هذه المنطقة لسبب من الأسباب وأتعرف عليها تاريخا وجغرافيا وحالة اجتماعية, فأدركت أن هذه المنطقة لم يكتشفها ابن بطوطة ولم يدرجها ياقوت الحموي في معجمه ولم يخطها الإدريسي, كما أن علي الوردي لم يأخذ علما بها, وأدركت سرّ اهتمام الطالب بها ليس لمجرد محاكاة نجيب محفوظ وإنما لثراء المنعطفات السلوكية والأخلاقية والسياسية والاقتصادية فيها, ثراء يلزمه لغة خاصة ليست تلك المعهودة في الكراريس النمطية التي تجد طريقها دوما إلى (عربات الباقلاء) وليست تلك التي تقتصر على أسلوبين في الطرح, الاسلوب الطلسمي الغنوصي الذي يداري به الأدباء فقر الفكرة والمعنى فيغطيها بإبهام وغموض بالمفردات ليواري سوءة النص, والأسلوب الوعظي الكنسي الذي يصبغ الأشياء صبغة ملائكية, لغة تمكنني أن أشُمّ رائحة روث الجاموس (الجلة) المعلق على الحيطان للتجفيف, وان أرى الصدق بوضوح على وجه بائع الحليب الخارج من الجامع بعد صلاة الفجر وهو (يحوقل) و (يبسمل) وقد أوصى امرأته قبل أن يدخل الجامع ألا تضيف إلى الحليب أقل من (سطلين) ماء لكل (سطل) حليب.

هنا كان الكتابة عند الأديب مع امتلاك أدواتها أمنية وهنا كان قصور الأدب بشكل عام عن تغطية الصورة الفنية كما هي وكما يجب أن تكون, والحقيقة أنني كتبت تصوري الفني عن هذه المنطقة وأرسلته إلى الطالب كنواة لرواية ربما تخدمني الفرصة يوما بإخراجها إلى النور, وهو بهذا كان ذا نزوع شعبي في عرض الموضوعات على مستوى الرغبة على الأقل , ويعيش شعبيا وفق الرواسب التي اعتادها لكنه لم يتمكن من الابتعاد عن فروضات اجتماعية كثيرة لا تتقبل ثنائية الإبداع والوظيفة.

لبسته الأكاديمية فتخندق بها ولم يتبذل في كتاباته ورواياته كما تبذل نزار قباني في شعره مع أنه معجز, ولم يستنطق المكان التي عشقها كما استنطقت غادة السمان الحجارة الصماء في حواري دمشق القديمة , وعلى عادة أغلب أدباء الموصل يتحرى القوالب النحوية والصرفية الصماء في عرض موضوعات غير مقولبة وشعبية, ويكمن وجه الإعجاز فيها تفاهتها وعفوية الحدث.

وكان يشعر أنه أدبيا مع الألفاظ والتشبيهات السوقية التي تتطاير أحيانا بدون قصد إثراءا للحديث مع الأصحاب والخلان, وتبدو أكثر أريحية ووقعا على السمع من الأدب المكتوب, فابتعد الطالب وغيره عن هذا المرقى الصعب, ولكن اقتحمه الحلاقون في الموصل الذين يجيدون قراءة الأماكن والأشخاص والتفاعلات الاجتماعية قراءات متدرجة تتناسب مع ما يدفعه الزبون وما يريد أن يعلمه بأسلوب معجز في التواءاته وكثرة الاستثناءات فيه ومن ثم حذفه بالكامل إذا شعر الحلاق أنه سيدفع الثمن عن هذا الحديث. للاسترسال قليلا فإن الحلاق يجيد الثرثرة والصمت في آن واحد, فهو يقفل فمه تماما حينما يشعر أن كلامه سيثير مشكلة وتلك مهارة اكتسبها الحلاقون بصفة خاصة مع ما أثر عنهم بأنهم ثرثارون, ولهذا تجد الحلاق أنيقا سليما معافى ومتصابي كذلك رغم أنه يستخدم الآلات الجارحة أكثر مما يستخدمها القصابون (الجزارون).

وهذا التخندق هو جزء من الواجب الأخلاقي, كما أنه ضمانة من مصير مجهول ربما يلحق الشخص إذا أصبح (علكة) تمضغ, يعلك بها الجميع خاصة أولئك الذين وقفوا لرجم الزانية في حضرة السيد المسيح, ولهذا راودته الصور اللامرئية في نمط الحياة في (دكة بركة) وصورة العالم السفلي فيه, والذي يضحك ويبكي ويثير الجدل ويعطي الدروس أكثر من إلياذة هوميروس.

وهذا التخندق صرف عمر الطالب إلى البحث عما يمكن أن يجعله في منتصف الطريق بين هذا وذاك, ونستشعر ذلك من ميله إلى التصوف على المستوى السلوكي, أما على المستوى الإنتاجي فانصرافه إلى إعداد موسوعة أعلام الموصل في القرن العشرين والتي لا أراها تدخل ضمن اختصاصه أو هواياته, كما أن عمل الفهارس والمعاجم لا تدخل ضمن اهتمامات روائي وصّاف, وربما جره الشوق إلى المدينة أن يترجم لأهلها  .

وهكذا ظل المكان يملي عليه وعلى غيرة القيم والضوابط الصارمة التي نحتها التاريخ والاقتصاد والاعتبار الاجتماعي في هذه المدينة, وعلى الجميع أن يخضع لها, ولكن هذا المكان لا يتسع أحيانا لأكثر من شخص واحد في المربع, بل لا يتسع دائما لاثنين يتقاسمان الهدف والمنزلة و (الكعكة), فالأشخاص غير ميّالون إلى الشراكة ولا يعرفون العمل الجماعي ولا العمل التكاملي, كما أن مفردة العمل ضمن الفريق الواحد لم تدخل قاموس المفردات لديهم بعد,  مما جعل أدب هذه البقعة يقدم  تقديم شخصي منفرد لا يعبر عن مدرسة أو طريقة أو اتجاه, وضاع منفردا كما قدم منفردا.

والتصنيف الأدبي يخضع لاعتبارات وجاهية لا تعتمد في عملية الإبداع, لهذا كان كثير من المبدعين خارج النادي لأنهم ابتعدوا قليلا عن الضوابط الموضوعة, فظل  عبد المحسن عقراوي  مثلا يستجدي العطف والإعجاب, وظل حسن فاشل يطلب المساعدة الأكاديمية ويطلب منبرا لشرح خبراته في المسرح, وظل سامي الجادر مخرج ومؤلف أول وآخر فلم سينمائي في الموصل يطلب التفاتة كريمة من أحد المهتمين بالسينما, كما أن فنانا تشكيليا بحجم نجيب يونس الذي لم يدخل ناديهم (على فرادته) لأنه لا يرتدي العمامة العلمية، وكثير من غير المختصين يتصدرون المنابر العلمية, طبيب نسائي يقدم دروسا اختصاصية في علوم الحديث, وطبيب عيون يدرس مادة التفسير, ومهندس معماري يحصل على الدكتوراه في الفقه دون المرور بالدراسات الجامعية الأولية لذلك التخصص,  كما أن رجل دين متواضع يستدرك على قرار مجلس جامعة بغداد منح طالب درجة الدكتوراه في الشريعة, ويقترح على الطالب اجتياز اختبار ملالي في أحد المساج . وعلى عادة السلاطين والأمراء السابقين, فإن الاكليركية المجتمعية تنظر إلى الفنان والأديب بطرافة, ولا يستحضرونه إلا للمنادمة والضحك, ويسلبونه في حديثهم الجاد حرية الحلم والتفوق وينقلبوا واعظين له حينما تنتهي النشوة، فكان على الجميع أن يحتمي بالمكان وقيمه لحماية أنفسهم من الابتذال, في البحث عن عناوين علمية أو دينية أو اجتماعية ترفع المقام نوعا ما وتحفظه.

في هذا الجو العام كان على عمر الطالب أن يسير , وكان كل قصوره وقصور غيره أن وجدت, أو ما لم يتحقق من رسالتهم كاملا يمكن أن يعلق على مذبح هذه الاشكالية.

 

موقع الدكتور عمر الطالب

22/ 2/ 2010

omaraltaleb@gmail.com