العودة للصفحة الرئيسة موقع الدكتور عمر الطالب

قصـة سيمفونيـة الحريـة تسبـق عمـر الطالـب إلـى طلابـه
ثمار أدبية تجني من قليل مايكتب

إبراهيم حمزة الطائي

ebrahimaltaee@yahoo.com

 

بدا طلاب قسم اللغة العربية في كلية الآداب جامعة الموصل على غير عادتهم، الأروقة مكتظة بالطلبة، مجاميع هنا وهناك، الجميع يتهامسون وينتظرون قدوم أستاذهم الجديد - أستاذ النقد - الدكتور عمر محمد الطالب الذي سبقته كتبه ودراساته، وخير تعبير لهذا الموقف الحي قول المرحوم الطالب في قصته سيمفونية الحرية ( فمنذ قدومي وقد سبقتني كتبي ودراساتي وجدتهم متلهفين لسماعي والحوار معي )
لا أنكر إن أستاذي بدا أنيقا لحظة وصوله ولا أستطيع أن أصفه أفضل مما هو وصف به نفسه " بدا أستاذي أشبه بالأرض الخصبة المحروثة توا، وبدا قميصه الأخضر واحة أمل في بيداء الظلم والقهر الذي نعيش فيه، ورباطه الأحمر راية ثورة على التخلف في الكلية ". مضي أكثر من شهر على قدومه، كنت حينها في المرحلة الثالثة وزملائي في المرحلة المنتهية، قدمت طلبا ولأكثر من مرة للتأجيل من الدراسة فقوبل بالرفض، لم تعد الجامعة بالنسبة لي شيئا مغريا سوي إنها تأخير من الخدمة العسكرية، أصبحت الدراسة والتعلم مسائل هامشية وأضحت قيمة الطالب كما وصفها الدكتور الطالب في قصته المسكون " تقدر بما يستطيع تقديمه من خدمات أو سلع أو رشوة، الفساد دب في كل شيء، فاحت رائحة العفن تزكم الانوف ". أصرّ عليّ زملائي بالدخول محاضرة للدكتور الطالب وخصوصا " محمد ونان، وتوفيق حسين " عسي أن أغير رأي في التأجيل، دخلت معهم محاضرة النقد وجدت ساحرا يقدم عرضا لأول مرة، كان عنوان المحاضرة "تأثير الأدب على الثورات في العالم " وقد كرس الطالب محاضرته - تأثير الأدب الفرنسي على الثورة الفرنسية - كان الطالب حينها شلالا دافقا يجري وسط البساتين فينهل من روافد المعرفة من كل جانب، كان نحلة ينتقل بين زهور المعرفة لينتقي أجود ها، كان يغرف من منجم مليء بالأحجار الكريمة، ويتحدث بنبرات لم تبدعها موسيقي بتهوفن،هكذا كان عمر محمد الطالب ينتقل وفي يده مشعل ويمتطي سفينة نجاة كيما يغور في بحار اللغة العربية بأركانها وفروعها لكي يشفي الغليل بأقصر الطرق وأدقها. وأخذت مقعدي في الصفوف الأخيرة لمحاضرات الطالب، كنت ضيفا لا يمل السماع لمحاضراته، وذات يوم دعا زملائي إلى مأدبة عشاء في كازينو الزهور مجاور مدينة الألعاب في الموصل، شرط الدعوة أن أكون ضمن المدعوين ... اخبرني توفيق بالدعوة ...- ذهبنا - كانت الساعة السادسة مساءا، دلفنا كازينو الزهور وقد أزهر الأقحوان فمها وظللها وشاح شفيف من نور الشمس النازلة في الأفق والتف بها نار حنان دجلة، ذهبنا إليه بادرنا هو بالتحية، جلسنا، تناولنا المرطبات ثم اخذ الحديث يدور عن الأدب وماهو مستوي الأدب والأدباء في العراق آنذاك، وما هو دور الكليات المتخصصة في رفد الأدب. لم أتفوه بكلمة واحدة، سألني الدكتور عمر الطالب مارايك إبراهيم ؟ أجبت - رأي مختلف عنكم دكتور في هذا الموضوع فالشعر العربي سيس والآن هو سيف بيد الدولة، إضافة إلى انه شعر للتكسب،وبقي منه القليل القليل ابتسم الدكتور ثم أردف حتما سيزهر هذا القليل. بعدها تناولنا العشاء، وعندها بدأ الدكتور بقراءة قصة لنا من تأليفه " الأطفال يلهون - لم تنشر حينها "، ثم طلب رأيّ بالذات عن القصة - أجبت إنها جميلة وتحتاج إلى وقفة تأمل. قال الم اقل لك ليس كل الكتاب مع السلطة، أجبت على الفور وبدون أن اشعر ... أستاذ أنت أستاذ فاضل وكاتب كبير ولكن هل تستطيع أن تجيبني لِمَ لم تنشر القصة لحد الآن ....، بالرغم من مكانتك الأدبية وقابليتك على النشر في الصحف والمجلات العراقية والعربية .... أجابني بكل هدوء كالعالم المتمرس الم اقل لك سنجني الثمار من هذا القليل، حينها ساد صمت ثقيل استأذنا بالانصراف وهو يغور وسط أفكار ملتفة بدخان لفافته ثم أردف سنلتقي مجدداشارفت الامتحانات النهائية على البدء، انقطع الطلبة للمراجعة، وما إن بدأت الامتحانات، حتي تري الدكتور رحمة الله يتنقل بين القاعات بابتسامته الجميلة وتواضعة المتعالي " يلقي التحية على الطلبة " ممازحا بعض الأساتذة ثم يذهب إلى غرفته، وفي اليوم الأخير من الامتحانات، طلب مني الحضور إلى غرفته بعد الامتحان، ذهبت إليه " دعاني مع الأصدقاء إلى (( حفلة توديع كما اسماها الدكتور رحمه الله )) في كازينو الأمل في الاتجاه ذاته لمدينة الألعاب في الموصل،ها وقد حلت الشمس ضفائرها تأهبا للنوم وارتدت ثوبا اصفر شفيفا وهي تتواري وراء الأفق، وجدنا الدكتور الطالب وقد تكسرت حمرة وجهه على أمواج نهر دجلة، القينا التحية عليه نهض من مكانه بتواضع عجيب، صافح الجميع ثم ذهب ليجب (( الكولا )) بنفسه مع وجود النادل، عجبنا من ذلك، أحسسنا بالخجل ولكنه الطالب ...............!!!! كانت ليلية جميلة ننتظر قطار الساعة الثانية عشر ليلا - بدأت الثواني والساعات أسرع مما هي عليه في الواقع .... تشعب الحديث... ((أحسست بالاغتراب في مدينتي )) بزفرات مرة أطلقها الدكتور .. علقت ما قيمة الإنسان إذا كان أشبه بمكعبات يصنع منها طفل " ابله ) أشكالا متناثرة .... بساتين محرقة .... !! بدت المرارة في حديثي .. علق توفيق محاولا تلطيف الجو .. أردفت قائلا ما قيمة المجتمع إذا كانت أسمي مهنة إنسانية "" الطب """ تتحول إلى تجارة بخسة !!!! فالطبيب قتل والدي لسبب لم اعرفه الا من احد اقاربي فيما بعد ..... كان والدي ضحية احد الأطباء الفاسدين " سقطت صورة احد الزعماء من جيبه بعدما أصيب بطلق ناري في رجله - فامتنع الطبيب عن معالجته، تسمم الجرح ثم مات !!! بدا الجو مشحونا وقد لمعت عيون الدكتور الطالب رحمه الله، اغرورقت بالدموع ثم أردف سنكون جميعا لك أبا وأخوة إنشاء الله ... أذنت الساعة بالانصراف، ودعنا .. استقلنا سيارة أجرة إلى محطة القطار .. ودعنا الموصل بعد أن خيم عليها ليل بهيم !!!!!
كانت البداية مع المحاضرة الأولي لمادة النقد الأدبي - السنة الجديدة - وبعد مرور أسابيع وجدت نفسي مشدودا إلى الدكتور المرحوم عمر الطالب وجدته شيئا مختلفا لم اعهده في بقية أساتذتي " مع فائق الاحترام لهم " فهو يحاضر بموضوعية ومن دون تكلف أو خوف، شدني إليه صدقه وإخلاصه في إعطاء المعلومة .. ولي شواهد كثيرة على ما أقول.... ليس بصدد ذكرها الآن .... كان يشد على ساعد الطالب وخصوصا المتميز، يحثهم على المطالعة الحرة بعيدا عن زيف الأنظمة،، وفي يوم ربعي شقت أشعت الشمس طريقها وسط قطرات المطر الخفيفة فتعالي قوس قزح محفوفا بزقزقة العصافير التي اختارت شجرت السرو ملعبا لها - الدكتور الطالب - كان منهمكا بمحاضرته عن الحرية - حرية العالم الثالث -، شغلتني حرية العصافير أكثر من حرية الطالب، حينها تعالت صيحات العصافير صعودا ونزولا مما أثار انتباه الجميع، رأينا أفعي تلتهم الجزء الأخير من عصفور صغير يلفظ أنفاسه الأخيرة .... عقب الدكتور هكذا هي الحرية في العالم ؟!! عندها أدركت زيف الحرية وتسلط السوط وسيادة القهر ...
توثقت علاقتي بالطالب، تخرج جميع زملائي، عندها أخذنا بالجلوس يوميا في أماكن متعددة من الموصل، جبنا تقريبا جميع شوارع الموصل، ذهبنا إلى الإعدادية الشرقية، بيتهم القديم الذي نمت اضافره به، كان المرحوم يعشق رياضة المشي ويعشق بلدته، وعندما سألته ذات يوم لم عدت من الرباط اجابني " لم يبق من العمر الكثير، على أمثالي إشباع ناظريهم من طبيعة بلدهم "
وعندما سمعنا بخبر وفاته .... حينها شربت دموعي وصوت يردد بداخلي بالا لاحول ولا قوة الا بالله ...
عذرا إلى محبي الدكتور الطالب ... هذا اقل ما اقول في أستاذي وقد ركزت على شخصية الطالب من خلال بعض قصصه التي اهداني اياها مستنسخة بخط اليد .... ولم أتكلم عن كونه ناقد وقاص وأديب ومفكر لأني اصغر من هذا .... رحم الله الدكتور الطالب.