العودة للصفحة الرئيسة . موقع الدكتور عمر الطالب

قـراءة فـي قصـة المسكـون للدكتـور عمـر محمـد الطالـب

بقلم إبراهيم حمزة الطائي

مر بيّ زمن طويل وأنا منهمك في أشغالي البغيضة, منكفئ على ذاتي، هاجرٌ إلى نفسي لا تصلني الأنباء ولا تجود علي الذاكرة بومضة استذكار لما كنت أرقب وأنتظر.. ولم أُفِق من سكرة الغفلة إلا على خبر وفاة الدكتور عمر الطالب وقد تناقلته المواقع الأدبية... هنا ـ بالتحديد ـ أفقت، واتسعت حدقتاي، والله لقد فاتني ما كنت مشتاقا إليه، ألا قاتل الله المشاغل، إنها لتذهل المرء عن الحياة ذاتها.... هرعت إلى أوراقي التي أهداني إياها الدكتور وهي عبارة عن مجموعة قصصية حينها لم تنشر فأخذت اقرأ ما كتب الدكتور ولم انهض إلا وقد كتبت مقال عنوانه (سيمفونية الحرية تسبق عمر الطالب إلى طلابه) وقد نشر في جريدة الزمان الدولية.
كانت هذه المقدمة مدخلا للحديث عن العلامة الدكتور الطالب رحمه الله  ومتعلقات الحزن في إطار قصته ( المسكون) وحركته الفسيولوجية.. وسأحاول تقريب العبارة حتى نخرج جميعا بصورة حية ذات ملامح واضحة لهذه القصة التي لا تنتمي إلى وحدة موضوعية تجمع أجزاءها فحسب، وإنما هي عبارة عن انشطار ذات الكاتب وتطاير نفسه، فالطالب الذي يكسب الكلام وعياً منتجاً للتفاعل والتداخل بين الواقعي والتخيلي، يشكل إعادة بناء مستمرة للمجتمعي العام في الحياة اليومية، في إمكانات التحول الداخلية الكامنة فيه, ولذلك عندما ننظر إلى خطوات الكاتب نجده في رحلة شائكة في ثنائيات متنازعة كالأضداد ليصنع اللحظة التي تفرض علينا التوقف عند امتداد ديناميكيتها وتبين آثارها على اللحظات اللاحقة التي تخللتها أو تعدتها, فالقاص اختار المكان (الجامعة) وبالتحديد غرفة الدرس, ولابد لنا من السؤال.. هل اختيار القاص للمكان عشوائي أم لهدف حدده الكاتب؟ فيما أعتقد أن الكاتب اختار المكان بالروح الناقدة لينقل المتلقي من أول وهلة إلى الجو الذي يريد وما أن دخل القارئ إلى غرفة التدريس حتى وجد أستاذ النقد! الناقد للمجتمع, وما أن يسمع القارئ صوت المحاضر حتى يدرك سبب هذا الاختيار! أراد الطالب أن يبين لنا إن المجتمع المتعلم هذا حاله فكيف بالمجتمع غير المتعلم, وبذلك بنى سدا منيعا أمام المعترض, لو إن الكاتب تحدث عن سوق الخضار ولنفرض انه قال (كل العاملين في سوق الخضار يسعون إلى زيادة أرباحهم) ما الغريب في ذلك؟ لان السوق هو مكان لزيادة الأرباح ولكن القاص احدث انزياحا
"لا يحس الإنسان انه في جو علمي في الجامعة وإنما في مصلحة تجارية" حالة غير طبيعية أن يكون في الجامعة مصلحة تجارية, وراح عمر الطالب ينتقد الوضع العام بالجامعة وما يحدث بها وكأنه أراد المجتمع بكل مستوياته.

قد يسأل سائل, ما الدليل على إن عمر الطالب أراد كل المجتمع؟

أليس كل أفراد المجتمع المتعلم هو خريج الجامعة, الطبيب, المدرس, ضابط الشرطة, المحامي, القاضي....الخ. ناهيك عن إجابة الطالب حيث يقول "الفساد دب في كل شيء رائحة العفن تزكم الأنوف" ولهذا عندما نقرأ قصة المسكون, لابد لنا من أن نضع في اعتبارنا تعدد مستويات الحدث الروائي المتعلق بقوانين البنية الاجتماعية وعلاقاتها بعوامل التردي والأمية الأبجدية والثقافية والجفاف الإبداعي والفساد الاجتماعي و الإداري "كنت غريبا عن الجو كله, مغتربا في داخلي عن وطني", اعتقد إن ذلك أعلى مستويات الجمالية إلحاحاً عند إسقاط صيرورة الحدث على الواقع, لكل ما يدور في العالم, أي إن الطالب سلخ نفسه عن كل ما يحدث في المجتمع لتبقى طبيعة الوطن جميلة كما عهدها قبل أن يشوبه هذا الانحراف.

ومما زاد النص ملوحة تلك العبارات المشحونة بدموع ضمير المتكلم، وهذه العبارات تومئ بطريقة مباشرة إلى أن القاص عمر الطالب حزين لأنه يستشعر الغربة ويلازمه هذا الشعور حيث حل وأنى كان.. مع أهله.. مع أصدقائه.. ومع أخص خواصه.. وهذا هو مفتاح شخصية الطالب وعنوانه الأساس (استشعار الغربة), يعيش حياته وفق متلازمة الاغتراب، الهاجس الذي ترجع إليه كل لفتة من لفتات حياته، وكل تصرف من تصرفات لحظاته.. إن هذه اللغة المتخمة بالعذابات جعلت القاص غريبا، وقلبه مجرَّة تسبح في فلك الفراغ، تبحث عن سكان يملئونها بالدفء ونبضات الحياة، إنه يحلم بالمعجزة، ويستغل دوَرانه الطبيعي في تحقيق هذه الرغبة الجامحة، ويحاول أن يُقنع هواجسه ووساوسه الملحَّة كما يخبرنا هذا المقطع "مضت الأيام لم يتغير شيء في حياتي سوى تفقدي للشاب ذي النظرات الصامتة .. انتابني القلق .. ترى هل تغيرت نظرتك للحياة .. خالف إرادتي كما لو يكون ابنا لي يخرج عن طوعي" وبعملية بسيطة نستطيع أن ندرك الرابطة الامتدادية التي تربط نداءات القاص وسر الكينونة.. ولا يصعب على المتلقي الممعن تحديد سريالية القاص وإيغال موقفه في متاهات الإبهام ولكي لا أشط عن صلب الموضوع أستشهد على رأيي حول هذا الشعور بحديث الطالب نفسِه عن مملكته الخاصة التي لا يحكمها أحد سواه ولا يقطنها شَعب غيره "سرني أن أجد في مجتمع المادة هذا إنسانا زاهدا يرفض ما آل إليه المجتمع"
حين نستمع بتركيز إلى قصة (المسكون) نؤمن عميق الإيمان بأن القاص عمر محمد الطالب يكتب القصة بوعي حاضر وإدراك فطن وقدرة فذة على ممارسة لعبة الترجمة.. ترجمة الشعور والإحساس إلى لغة فنية مركزة وصور شعرية مكثفة وإبداع تقني راق, بمعنى انه يركن إلى ظل ثقته بفنه.
وأنا أقرأ هذا الظل الخالد أتمثل القاص الإنسان، "سألته عن صحة والدته.. عرضت عليه المساعدة.. قلت بحنان أبوي.. أنت مثل ولدي أريد أن أساعدك حتى تنهي دراستك
" كأنه يتحدث عن نفسه بلغته المعهودة، لغة البراءة الصافية، وكأنه يحكي حكاية حلم تجري فصوله خلف أستار الضباب، وتترادف وقائعه في شحوب يُخفي شيئاً ويظهر أشياء.. وبجدارة ونجاح وتضحية من أجل الحفاظ على هيبة الأجيال.
لعلي أكون مصيبا الهدف إذا افترضت أن إسقاط معاناة مبدع إنسان مفكر عبر إعادة إنتاج ذكريات بهتت ملامحها بعد أن تاهت في زحام دروب الممارسات الحياتية اليومية, وبما أن البوح الذاتي أشبه بالعزف المنفرد على آلة الوجدان بديلا عن آلة موسيقية، فلا غبار على العازف أن يخرج في عزفه المنفرد من مقام إلى مقام مجاور له نبرا وشدة أو لينا، حتى وإن أدى ذلك التخلص الأدائي إلى الانتقال من معنى إلى معنى مغاير، دون أن يظهر ذلك التخلص نشوزا ينبو عن حس الذائقة المستقبلة لخطاب البوح الانفرادي، والموسيقى هي القلب النابض التي تصبح جسدا بلا حياة إذا لم تضج تفاصيلها بتلك الموسيقى، والكتابة عندي عبارة عن مقاطع موسيقية وسيمفونيات غنائية صادرة عن قيثارة الروح وأوتار القلب المفعمة بالحزن والحب والجمال.
بقدر ما أقول بعض الحقيقة تلك التي أعرفها، وليأخذ عليّ الآخر: أن كتابتي عن الطالب  تتناول بوح الحقيقة، فأنا لا أكتب بالمعنى الأكاديمي، بل أكتب عبر استشراف المضمون الافتراضي، يوميء إلى إطلالة أشبه بالفرح الروحي، يختار فيها لحظات الهدوء والتجلي، التي تستكين في تخيل حتمي ترقى فيه الروح إلى سمائها المضيئة بالإبداع، التي ينتجها أنبياء الكلام في محاكاة الصور التي تتشكل في وعيهم. والكاتب في هذه التجليات يعبر عن رؤاه التخيلية الشاملة فهو يخلق نصاً من الأثر العاطفي الذي يأسرهُ التنبؤ الحتمي، والكاتب  قد يقول في الحياة العامة والخاصة ما شاء له القول المباشر في شؤون السياسة والدين والفلسفة، ولكنه حين يكتب فأن رؤاه الجمالية هي استقلال خاص عن هذه الآراء، صحيح إن هذا يُدّرْس في المعاهد والجامعات، ولكن الإلهام في كل العصور لا يزور إلا صاحبه، فهو صراع داخلي يتفجر في الخيال، فَيكوّن إرهاصاً فنياً يصل إحساسه عبر تكوينات الوحي الإلهامي في الخيال، وهذا الصراع التأملي موجود عند كل أديب، ولكنه مختلف باختلاف الطاقة التعبيرية والمبالغة الحسية العاطفية التي تعتمد على المتحول اللغوي والمعرفي، وما يحضرني هنا هو وصف الحالة النفسية التي تقوم بالأساس على طاقة الانفعال النفسي في ولادة اللحظة الأولى لحالة الرهص الذي يغذي الذائقة الإبداعية عند الطالب، "
وددت لو قدمت لإبراهيم ما يطلبه كما فعلت مع كثيرين غيره مروا في حياتي من طلبة وغير طلبة الا انه سد كل باب في وجهي"  كونه على صلة بالحقائق النفسية والكونية التي تلهمه في تجربته، وبما ان العمل القصصي هو محاكاة للمكان والزمان وبينهما الإنسان، وهنا لفن المحاكاة وبلاغتها صور مختلفة في الفعل التأثيري على الآخر, وهذا ما نرى الطالب إذ يتوحد في حالات الإبداع المتعددة فتجعله قادراً على التوهج المستمر في العطاء المثمر والمتمكن على فعل تأثير النص على الآخر، لخلق إيلاما وتجذرا في الجانب العاطفي الإحساسي، كونه يذهب بعيدا في التجاوب الروحي والإنساني والعاطفي، حيث يتجسد المنحى الشفاف الرقيق إلى حد التوحد الروحي في غنائية الكلام ورقي جوهره بعيدا عن الغامض، بدءاً بتطهير المفردة من الشوائب والعناية في اختيار الرشيق ذي الظل العاطفي الخفيف منها، الموقد في ودادية الخيال والتأمل، تتصاعد الحركة المركبة الموحية مع الصوت من الداخل المتحرك إلى الخارج الإيقاعي.