الصفحة الرئيسة لموقع الدكتور عمر الطالب

 

ركائـز القصـة القصيـرة فـي الموصـل

ملخص قدم الى ندوة واقع القصة القصيرة في الموصل والتي عقدها مركز دراسات الموصل 2-3/نيسان/2008

موصليات - العدد 28 - تشرين الثاني 2009

بقلم الأستاذ الدكتور عمر محمد الطالب

 

ظهرت القصة القصيرة في العراق مع مطالع عشرينات هذا القرن في كتابات محمود اجي السيد وكانت أشبه بالصور المأخوذة من المجتمع تارة أو تصوير العلاقات العاطفية تارة أخرى ولا تخرج في إطار سردها عن إطار التقرير الصحفي، أو المقالة القصصية وهكذا ظهرت في قصص ذنون أيوب الأولى حتى تشكلت فنياً في أواخر الثلاثينات ومطالع الأربعينات في قصص عبد الحق فاضل.إلا أن القصة القصيرة في العراق لم تتبع الأساليب الجديدة السردية المنفتحة إلا في مطالع الخمسينات على يد عبد الملك نوري وغانم الدباغ ومحمد روزنامجي الذين اتبعوا أسلوب التداعي وفي قصص فؤاد التكرلي الذي اتبع أسلوباً جديداً في بناء القصة يعتمد على التركيز والتكثيف والاهتمام باللفظة والمشهد واتباع السرد التصويري ذي الأسلوب المقتصد تجسدت هذه الظاهرة في مجموعته (الوجه الآخر). غير أن أحداث ثورة الرابع عشر من تموز عام 1958 وتبدل البنى التحتية والفوقية في العراق والتحول من النظام الإقطاعي والملكي إلى النظام الجمهوري وتجزئة الإقطاع إلى ملكيات صغيرة أدى إلى ظهور تجديد في القصة العراقية القصيرة على يد أربعة من الكتاب هم:عبد الرحمن الربيعي ومحمد خضير وسركون بولص ومحمد عارف وتحولت هذه الثورة على تقليدية القصة إلى تجديد حي بعد ثورة السابع عشر من تموز عام 1968 وبقي محمد خضير في طليعتها وانضم إليه مجددون عديدون من كتاب القصة القصيرة في العراق منهم محمود جنداري الذي إلتقيناه نموذجاً لهذا التجديد.

 

محمود جنداري وتجديد القصة القصيرة في العراق

يعد محمود جنداري واحداً من ألمع كتاب القصة القصيرة في العراق بدأ تجربته القصصية بمجموعة (أعوام الظمأ) عام 1968 وظهرت قدرته الفنية في التقاط الزوايا والتعمق في الظواهر والعلاقات والأشياء ويسخر منها بأناة ودقة مثل جراح ماهر يربطها ببعضها ويعيد لها نبضاً جديداً ذا وقع أخاذ.وهو مجيد في بناء القصة تتداعى مثل ينبوع جبلي في صيف قائظ، وهو لا يكتفي بتقديم الماء بين كفيه ليرويك وإنما يختار إناء جميل مزخرفاً منمنماً يستحيل بين يديك نظرات عذبة تمتزجه بالماء الذي تشربه.

وهو أفضل من يتحدث عن أهل الريف البار الذي طالما عضته تلك العلاقات المشوهة المستورة، فهو يعريها، ويرع في التعرية ستراً إذا كان السترجناما: (كان يتيم في فترات منقطعة من كل عام خصوصاً في مواسم الحصاد، رجل عظيم الشره..لم ينبض قلبه بحب قط لتلك القرية ولم يرحم أحداً أخطأ في حقه من أهلها، القرية وأراضيها الشاسعة الخصبة وناسها البائسون كلهم ملك لهذا الرجل، وكان يتصرف بالناس وبالأرض وفق مصالحه اعتمد محمود جنداري في بداياته القصصية المتمثلة بمجموعته (أعوام الظمأ) على الأجواء النفسية لشخصياته والتي انتقاها انتقاء من بين معارفه وأهل بلده الذين تعرف عليهم عن كثب مثل قصتي (الوحل، وانتظار اللقاء الأخير) القصة الثانية قصة رثاء موجهة بمشاعرها الحزينة نحو صديق (مهدي) قتل لشدة حماسه واندفاعه نحو قضيته وترك طفلة ولدت تواً، تتعرض القصة لقضايا كبيرة ومسائل لم تجد حلاً على الرغم من مرور ربع قرن على كتابة القصة، مسألة الحياة والموت، الشهادة من أجل قضية الخيانة العربية، الانتكاسة، الخوف من مواجهة إسرائيل، دور السياسة الأميركية، دور السياسة الأميركية في الشرق الأوسط، يبدو لي من خلال استقراء قصص جنداري أن لحدث الاغتيال هذا أثر كبير عليه، حيث يعود مهدي تارة أخرى في قصته الطويلة الحافات 1989.

القصص الخمس الأخرى من قصص المجموعة، تبدو لي تجارب خاصة ومعاناة فردية لجنداري نفسه (الانتظار، رؤيا مجنونة، الذي مات، أعوام الظمأ، أصداف في ليل التراب)في القصة الأخيرة عذابات وتمزقات الراوي المتعب الممتلئ رعباً من الحياة، يلتقي بامرأة فارقها منذ زمن طويل، تغيراً شكلاً شوه الترحل قدها الممشوق حوار غير مجد ينبعث من إحساس بالضياع تتكرر كلمة (دودة) و (دودة قذرة) أكثر من عشرين مرة في صفحات لا تتعدى الست، من تكون هذه المرأة، حل هي (جليلة الأعسر) الرمز الذي آمن به جنداري وأخذ خلفية قصصه الجيدة بعد ذلك ؟وهل القصة هذه تخطيط أولي لقصته الطويلة (الحافات) نضجت عبر قلمه بعد قرابة ربع قرن؟.

تصل الراوي رسالة وهو في فندق كلاهما رمز الأولى رمز انتهاء (الانتظار)وهو اسم القصة والفندق رمز للترحال المستمر، الرسالة من أهله تحمل نبأ خطيبته فقد زفت لابن عمه ينتهي انتظار بعد تأمل يجد الأمر هيناً، ويسخر من الجدية البادية في عبارات الرسالة، الأمر تافه جداً لا يستحق كل هذا الاهتمام من أهله، تتداعى ذكريات لقاءاته مع (سلوى)والاسم هنا ذو دلالة رمزية أيضاً في قريته، يساوره الشك تجاه سلوكه، يعجب كيف احبها يوماً!!أمه تتمزق حزناً عليه، تظنه قد جن يتعاطف مع هذه (الأم)..وهي رمز رابع في القصة-هذه الأم((الجرئية أبداً ساذجة أبداً طيبة القلب))(ص12)تتداعى في مخيلته صور عدة، حقد أخيه طيبة أمه التساؤلات الوجودية، الإيمان، ويزمع السفر أخيراً إلى قريته برغم حماقات ثمانية عشر راكباً وما يزيد عن النصف دينار الذي يدفعه أجرة مقعد في سيارة ورابع ساعات سفر مغن نفق عند هذه القصة القصيرة قليلاً إنها تخطيط لقصة تنضج مستقبلاً باسم(الحافات)ويحدث تغيير بسيط في الاسم تضحى سلوى، جليلة الأعسر، وتبقى حبية دون خطبة أو زواج من ابن عم، هل تنبأ جنداري بما ستأتي به الأيام؟

تبدأ قصة (رؤيا مجنونة)بحلم سوريا لي، يدور فيه الراوي في مدينة مجرية مهجورة، الناس دمي من حجر أجوف، الشوارع مرحلة قذرة الأشياء باهتة ومرمية، أطفال بلحي بيضاء، عجوز غريبة الشكل، ينحشر في هذا العالم، يرقص دون وعي، ويتساءل معهم، يواصلون دون سماع الإجابة يرفض عالمهم ورقصهم صارخاً يصمو على هزة من يد النادل (عبد الشهيد) ويستيقظ من حلمه، قصة الإحباط بعد نكسة الخامس من حزيران عام 1967يعبر عنها بأسلوب أكثر فنية في الحافات بالهول النكسة أنها فقد البصر للذين تعلقوا بالناصرية وما هو أدهى إنهم كانوا ضعاف البصر؟ترى هل عاد الوعي أم هي ولادة جديدة؟!علينا أن ننتظر ماذا سيكتب هذا الإنسان الفنان بعد أن انحسر القناع عن عينه وأمضته التجربة؟ترى هل سيصرخ كما صرخ السيد المسيح بعد هول التجربة؟!!يترك (عادل)عمله في قصة (أعوام الظمأ) ويتجه إلى شقة صديقة (عدنان) الحالم دوماً بالخبرة يخبره بهمومه الخاصة يحمل صحيفة فيها صورة حبيبته التي فارقها منذ ستة أعوام، تداعيات عبر الحب والضياع، القذارة والحلم، وطريق مرهوم يمر به عبر العالم.

هذه المرة أيضاً نجد نفسنا أمام تخطيط قصة تأخذ مكانها في (الحافات) الراوي والصديق والحبيبة جليلة الأعسر.

البطل مهزوز ممزق منسحق في قصة (الذي مات) يراقب الوجود وحركات الناس والزمن، يستعين بالشاعر الأعمى (بشار. الماضي الحاضر المنحسر، تكثر التداعيات والضبابية في القصة صراع الإنسان والزمن مرموز له بساعة تواصل حركتها تباعاً دون توقف أو استقرار أو مبالاة بالآخرين على الرغم من تراكم حبات الرمل والغبار.

نحن مرة أخرى أمام تخطيط لقصة يكتمل في الحافات، يختفي بشار الأعمى الرمز، ليندمج بالصديق الأعمى الذي فقد بصره في حرب لم يرد المشاركة بها، لأنه يعرف الكثير، هذا الصديق عرف الكثير عن جليلة الأعسر ويريد بطل الحافات أن يفيد من خيرته.

 

 

مركز دراسات الموصل