الصفحة الرئيسة لموقع الدكتور عمر الطالب

 

المعلـم والشاعـر بشيـر مصطفـى

1917-1979

موصليات - العدد 12 - كانون الأول 2005

بقلم الأستاذ الدكتور عمر محمد الطالب

 

ولد بشير مصطفى في الموصل وقضى فيها الدراسة الابتدائية والمتوسطة ثم التحق بدار المعلمين ببغداد واصبح معلماً في المدارس الابتدائية وانتقل بين مدارس عدة خارج الموصل حتى نقل اليها ابان الحرب العالمية الثانية واشتغل معلماً في المدرسة القحطانية، وكان معلماً ناجحاً ومربياً ممتازاً الا انه بسبب عقيدته السياسية نقل الى مديرية معارف الموصل موظفاً في المخازن وبقي في وظيفته تلك حتى قيام ثورة الرابع عشر من تموز حيث اعيد الى التدريس ثانية وعند قيام موجة الاغتيالات بين عامي 1960-1963 انتقل الى بغداد وعين معلماً في مدارسها واحيل على التقاعد بعد ثورة رمضان عام 1963 ودخل السجن ثم افرج عنه عام 1965، ولم يتزوج بسبب ظروف اسرية، فعاش في بغداد متنقلاً بين الفنادق حتى وافاه الاجل عام 1979.

كتبه: (1) خمسون سؤال وحلولها. (2) ديوان مخطوط.

بشير مصطفى

امتاز الشاعر بشير مصطفى عن غيره من الشعراء انه التزم جانب الفقراء والمحتاجين ووقف بعناد ضد التسلط والقهر، فهو يسخر من الانتهازيين الذين يعرفون من اين تؤكل الكتف في قصيدته (مهازل) المنشورة في جريدة الفنار بتاريخ 4/2/1954) ومما يقول فيها:

مثلوها مهازلا وفصولا                          واقرعوها صفائحا وطبولا

واخدعوا الناس ما استطعتم خداعا             واحسبوهم بهائما وعجولا

واخطبوا واكتبوا بكل لسان                    و املأوا الجو ضجة وعويلا

 وهو اذ يلقي الشعر في المحافل يختار المناسبة اختيارا كما فعل في حفل مبرة يوم التاج في دار العجزة ولا ينسى بشير مصطفى موقفه المساند للفقراء ضد المستغلين والطامعين دون مهادنة، او لين كما في قصيدته (في مبرة يوم التاج) المنشورة في (جريدة الفنار العدد 13 بتاريخ 7/5/1954) ومما جاء فيها:

ضمائر الناس- لو محصتها- عجب         ان شابها زغل لم ينتف الذهب

وان بدا المرء شيطاناً اخاسفه                فانه ملك للخير مرتقب

وهذه النفس كون لا حدود له             من الفضائل غطت بعضها السجف

 ويقع ديوان بشير مصطفى المخطوط (الحان قلبي) في اثنتين وسبعين ومائة صفحة، وقد نشر جله في الصحف والمجلات العراقية، ومن القصائد ما فقد تماماً، لاسباب سياسية او اجتماعية، والقارئ في هذا الديوان المتميز بالنسبة لشعراء فترته، يدرك اهمية هذا الديوان، والتعمد المقصود في اهمال الشاعر وشعره، فلم تأت على ذكره اية دراسة عقدت عن الحركة الادبية في الموصل او الرسائل الجامعية التي اعدها طلبة الدراسات العليا في التاريخ الحديث على الرغم من دوره البارز والفعال. وقد قدم بشير مصطفى ديوانه بهذه الابيات:

هذه الحان قلبي                     وحي حرماني وحبي

ذبذبات من فؤادي                 قبس من نور ربي

خلجات الفن حيرى                بين ايجاب وسلب

كشف آفاق نفسي                 واحاسيسي وقلبي

فهي دنياي وكوني                  وصدى فيضي وجذبي

وهي مرآة حياتي                    وبها تحيا بقربي

وقد اهدى بشير مصطفى الديوان الى ابيه وامه واستاذيه بهذه العبارات الجميلة التي تدلل على علو نفسه ورقة طبعه وجمالية نثره (الى روح ابي الذي رشاني بعنقود من العنب وقطعة صغيرة من النقود ليحبب اليّ الرجوع الى المدرسة بعد ان اعلنت الاضراب عنها في اول يوم دخلتها، والذي كانت اعز امانيه ان يراني في الصف السادس، وقضى، وما ازال في الصف الاول. الى روح امي التي شيعتني بدموع الفرح حين غادرت البيت لدخول المدرسة وهي تتمنى على الله ان اكون معلماً، وقد كنت. الى اخي الذي لم يأل جهدا في توجيهي وفي تسقط زلاتي واغلاطي اللغوية وحملي على اصلاحها والذي كان يكافئني كلما اتقنت درسا او اجدت في كتابة سطر. الى استاذيّ اللذين كان لهما الفضل في غرس حب اللغة وادابها في قلبي خضوري بهنام فرجو وعز الدين آل يسن، اهدي هذا) (ص4-5) وقد عثرت على رسالة ارسلها بشير مصطفى الى الشيخ محمد رضا الشبيبي، يطلب فيها اليه ان يبين له رأيه في شعره، اقتطف منها هذه الفقرات (هذه مجموعة من العواطف والاحاسيس سجلتها باسلوب موزون مقفى يسميه الناس شعراً، وذبذبات مختلفة الايقاع، متباينة الاهداف، لا تربط بينها غير رابطة واحدة هي صدورها عن قلب واحد هو قلبي فهي اذن (الحان قلبي)، ولن ينفي عنها هذا الوصف كون بعضها اسود قاتماً وبعضها ثائراً متمرداً، فالقلب ولا سيما قلب الشاعر-على حد ما يدعيه الناس-لا يفترض فيه ان يكون دائماً وابداً مرحاً طروباً وبلبلا شادياً...قد يكون اللحن اشد وقعاً في بعض النفوس اذا كان حزيناً او متمرداً. وكل ما يفترض في القلب وفي اللحن معاً، ان يكونا صادقين، وهذا كل من استطيع ان اجرأ فأقوله عن هذه الالحان، وليس ادل على ذلك جرأتي على ان اعرضها جميعاً على مقامكم الجليل، وبينها ما قد يبعث فيّ الخجل والتلكؤ، ان انا حاولت تلاوته امكامكم عن كثب) وقد ارخت الرسالة الموصل 20 نيسان 1953.

ونلمس عند قراءة الرسالة مدى صدق الشاعر بشير مصطفى وشدة تواضعه وتقديره لمن قطعوا اشواطاً قبله في طريق الشعر، على الرغم من قدرته العالية في نظم الشعر وممارسته حيث كان بشير مصطفى في الفترة التي كتب فيها هذه الرسالة يعد واحداً من ابرز الشعراء في الموصل وقد قطع فيه شوطاً بعيداً. ويعد استاذا للعديد من ادباء الخمسينات في الموصل. ويعلن بشير مصطفى عن هدفه من قول الشعر وممارسته، والتي كانت له نبراساً وهادياً، بهذه الابيات الجميلة التي لم يحد عنها طوال حياته المتعبة، وكان في امكانه-وهو الشاعر المجيد-ان يلعب على الحبال، ويحقق اهدافا ومصالح خاصة، تغنيه وتوؤه مكانة متميزة الا انه- وهو الرجل الطيب الصلب- لم يبع كلمته الجميلة لأحد ولم يكن شاعراً مأجورا كغيره من الشعراء، لانه كان اسمى منهم نفسا واصدق منهم كلمة، ولم يفكر يوما بمصلحته، وانما كان همه ان يرتقي الشعب ويسود العدل ويتحقق الاستقلال المنشود، ويحترم الانسان في هذا البلد وافر الثراء والمبتلى بحكم الاوباش وشيوع الفساد الذي ضرب اطنابه حتى اصاب الناس بالويل والثبور وعظائم الامور فعانوا من الفقر والمرض والجهل والتخلف والبطش وفقدان العدالة :

رب هب لي ليستنير فؤادي                 قبساً من سناك يوري زنادي

ومن القلب أن يفيض شعوراً                 واجعل العاطفات طوع قيادي

فلقد أدبرت جياد القوافي                    عن حماها وزمجرت في عناد

وتولت وقد رأت بي عزوفاً                   يوم نادى على النفير المنادي

لست أبغي بالشعر مالاً ومجداً                 فهو عندي وسيلة للجهاد  (ص8)

وقد حقق الشاعر المعلم بشير مصطفى الجهاد حقيقة في شطريه الثقافي والسياسي ونفد ما سطره في الأبيات آنفة الذكر، وبين مقاصده من قول الشعر في قصيدته (أنا والشعر) حيث نقتطف منها :

ان لي في الشعر شأناً                        غير شأن الشعراء

منه أستوحي انطلاقي                       وأغني ما أشاء

لست أبغي من وراء ال                    شعر مدحاً وثناء

لست أهفو لنعوت                         مسبغات في سخاء

ليقول الناس عني                          ما يروق الأدعياء

فأنا خصم التباهي                         وعدو الادعاء

أرسل القول صريحاً                        دون لف أو رياء

يتوزع شعر بشير مصطفى على جميع الموضوعات الشعرية، الا أنه يتمركز في ثلاثة محاور أساسية : الشعر الوطني، والشعر الاجتماعي والشعر الوجداني، وهو يلتزم الشعر العمودي ولم يسر في ركاب الشعر الحديث (الحر) كما فعل معاصروه ممن تأثروا بالسياب ونازك الملائكة وحذوا حذوهم، وهو في شعره الوجداني ينحى منحى الرومانتيكية التي ظهرت في المهجر وفي جماعة أبولو في مصر، فهو لا يعبر عن عواطفه تعبيراً تقليدياً، وانما يستوحي عواطف صادقة وتجربة شعورية حقيقية، ولا يلجأ الى الصور التقليدية المستهلكة أو الألفاظ الكلاسيكية الشائعة في الغزل القديم، وانما يستوحي مشاعره الخاصة، فهي التي تملي عليه الألفاظ والتراكيب المنسجمة مع موسيقى تجربته الخاصة سواء أكانت الموسيقى داخلية أم خارجية. ساء اختارت القصيدة لها قافية واحدة أم تنوعت فيها القوافي كما في قصيدته (الجمال الثائر) منها قوله:

الى أين الى أين ؟                    اله الحب والشعر

بهذا المدنف المضني                  أسير الوجد والفكر

بدا كالزورق الواهي                يعادي لجة البحر

فلا ينقذه الموج                     لأن الموج لا يدري

يحب الكاعب الولهى                تعاني لاعج الأسر

سكوتها لوعة حرى                 شواظاً من لظى الجمر

ان الشاعر بشير مصطفى مثابر في شعره على تجربته الشعورية الخاصة يجدها في أعماق قلبه انه يعبر عما يشعر به فما يشعر فهو جيد، وما لا يحسه فهو لا يقترب منه ولا يعبرعنه وان المرجع الأساس، ضميره فهو لا يساوم على عواطفه الصادقة لأنه غير قادر على التزييف. ان أول ما يستمد منه شاعريته ويعف به يراعه هو ذاته، لذا فهو في شعره الوجداني يدعو الى الفردية، على العكس من دعوته العامة في المجالات الاجتماعية والسياسية، لأن الاحتكام الى الذات في القضايا الوجدانية، هي الصدق بعينه. وخاصة في ترديده الشطر الاول عدة مرات وقد تتنوع القافية لديه حينما يشكل القصيدة الوجدانية في مقاطع عديدة اسوة بما كان يفعله علي محمود طه ومحمود حسن اسماعيل وغيرهما من شعراء الرومانتيكية الجديدة. كما في قصيدة (مناجاة)،ومنها قوله:

لخيالي بين نهديك هيام..وتجلي

ولروحي بين جنبيك مقام... فليصل

انا في حبك صب مستهام....واولي

فلعلي شاهد فصل الختام...فلعلي

الحياة الحب والحب والحياة.... يا حياتي

فعلام الصبر منا والاناة... يا رجائي؟

انه تركيب مستحدث للقصيدة العربية، في الموصل على الاقل، وفي القصيدة جرأة وشفافية قلّ ان نجدها في شعراء مرحلته، وفي استخدامه شطرا من اغنية مشهورة لمحمد عبد الوهاب مطرب الشباب آنذاك فذلكة جميلة لا نجدها عند غيره من الشعراء في تلك الفترة. لقد عمد بشير مصطفى الى توليد صور تخطيطية عمادها الخيال ومادتها اللغة، ولعبت المخيلة دورا هاماً في تجسيد الواقع الوجداني بين فتى وفتاة توحدهما وحدة تأليفية اطارها العاطفة ولوحتها التلاحم، ان بشير مصطفى قادر على خلق التلاحم الجسدي في اطار الهوية الشعرية العاطفية لخلق الوجود الواقعي الذي هو اساس في وجود الجنسين من اجل فعل اقوى من مجرد حب افلاطوني هيولي اساسه العواطف الهائمة مثل ارواح قلقة لا تعرف الاستقرار. ترى هل هذه مناجاة كما اطلقها الشاعر عنوانا لقصيدته ام دعوة الحياة؟!.

وقصائد الشاعر بشير مصطفى الوجدانية كثيرة واكتفي بهذا القدر الذي يبرز قدرة الشاعر وتفوقه على شعراء عصره في هذا النوع من الشعر، ولما كان شعره الوطني يحتل المساحة الكبرى في ديوانه. فأجد نفسي في دائرة شعره هذا لأنه يمثل حياة بشير مصطفى الشاعر الكبير والوطني الصادق الذي عاش ومات من اجل حرية الشعب ونيله لحقوقه العادلة، فهو ينعى الديمقراطية المزيفة في العهد الملكي ويسخر من المعارك الانتخابية سخرية لاذعة من المعارك الانتخابية في قصيدته (مهازل) والتي يقول فيها ساخراً من الديمقراطية المزعومة والحرية المزورة قولا مليئاً بالسخرية اللاذعة وقد اوردتها في بداية دراستي هذه، ومثلها قصيدته (قالوا) والتي جاء فيها:

قالوا سكت على رضا وقناعة          فأجبت هذا الادعاء حرام

ليس السكوت كما ترون تخاذلا       لكنما هو عندي استجمام

وكلام غير المخلصين خديعة           وسكوت غير الخائنين كلام

ما كل قول قد يقال منافع             او كل صمت سبة او ذام

ماذا اقول وكل ما حولي اسى          وحقوق ابناء البلاد تضام (ص22)

يؤمن بشير مصطفى بأن رسالة الادب ما هي الا الوحدة السياسية للشعب ضد الطغاة، وحينما يكون الفرد شاعراً عليه ان يمثل طبيعة الشعب، وهذا يعني ان يرى خلائقه بعيني مناضل، وان المناضلين ليسوا وحدهم لأن الشعب من ورائهم، فاذا بررت الظروف سكوتهم عليهم ان يصمتوا في انتظار الوثبة المقبلة التي تحقق لهم مرادهم، وتنيلهم اهدافهم التي سعوا اليها في نضالهم المرير وقد يصبح الشعر عند بشير مصطفى تعليماً بشكل صريح فالشعراء هم مهندسو النفس الانسانية فهو يقرن الشيطان برئيس وزراء بريطانيا (تشرشل) الذي عانى الشرق منه الامرين حينما كان وزيراً للمستعمرات، وهو الذي قضى على حركة مايس الوطنية القومية ابان الحرب العالمية الثانية عام 1941 حينما كان رئيساً للوزراء، وقضى على الجذوة الوطنية والقومية في العراق التي سعت جاهدة للتخلص من السيطرة الاستعمارية البريطانية، يقول بشير مصطفى في محاورة جميلة بين تشرشل والشيطان:

تشرشل: ايها الشيطان قد اغويتنا              فالحاكم نحن في هذا العذاب

          قد فشلنا وخسرنا ملكنا               واغرتنا امانيك العذاب

الشيطان: امض يا شرشل لا تيأس فما        حالف النصر الضعيف اليائسا

       لا يزال الامر في البحر لكم            فاحكموا البحر وخلوا اليابسا

تشرشل: ان شعبي الان قد ثار عليّ           يطلب السلم بالحاح شديد

          وينادي وهو في مخبئه              او وزاء الموت من امر مزيد

الشيطان: عده واخدعه بوعد كاذب             طالما جربته بين الشعوب

           عله يطفئ من بركانه               ويمني النفس بالنصر القريب

تشرشل: قد صحا العالم من سكرته             واهتدى في سيره نحو السبيل

           فخداعي ووعودي لم تعد             تنطلي حتى على الغر الجهول

الشيطان: ان يكن ما قلته الحق فقد             اذنت شمسكم نحو المغيب

           فاترك الحكم وودع عالما           ليس للكاذب فيه من نصيب(ص41).

ويذهب بشير مصطفى الى الربط بين الادب والواقع على اساس ان الادب والفن اشكال مستمدة من الواقع وانهما بالتالي وسيلة من وسائل المعرفة، فهو يرى بأن الفن لا يعبر عن مشاعر الناس وعواطفهم وحدها وانما يعبر عن عواطف الناس وافكارهم معاً، ولا يعبر عنها على نحو مجرد وانما يعبر عنها بالصور فهو لايرى في الفن عالما منفر لا في وجود مستقل عن دوائر الوعي الاخرى وعن حقيقة ما يحدث، وانما الادب يعبر عما يحدث حقيقة وفعلاً، فهو يهاجم احد الوزراء الذين خدعوا الناس بانضمامهم الى الجبهة الشعبية التي ضمت الاحزاب المعارضة عام 1954 وفازوا بمقاعد في الانتخاب على الرغم من التزوير الذي دبرته السلطة الحاكمة آنذاك، وقد انسحب هذا الوزير (الوطني) خشية من بطش السلطة الملكية، فانبرى له بشير مصطفى بقصيدة ساخرة تعكس الواقع السياسي آنذاك: بعنوان (بئس الوداع) ومما جاء فيها:

بهمتكم تعمرت الديار             فبان الصبح وانتهك الستار

وخيبتم اماني الناس فيكم          فعفر جبهة الشعب الغبار

اصنعتم مشيتين فلا نفوذ          ولا ثقة فحايدكم خسار

حسبتم ان هذا الشعب غر        وان (البلف) مرتعه دثار(ص61)

لقد عبر شعر بشير مصطفى على ان الشعر في خدمة النضال وانجاز التحرر الوطني، وان دور الشعر في المجتمع هو ضرورة اندماجه بالشعب، وان الاعمال الادبية بوصفها اشكالاً ايديولوجية هي منتجات لانعكاس حياة الشعب في عقول الادباء الثوريين لأن حياة الشعب هي دائماً بالنسبة للشعر منجم من المواد الخام، لذا لا يدع الشاعر فرصة وطنية الا ويدلي بدلوه فيها معبراً عن عواطف الشعب الوطنية واعماقهم المتوثبة الى التحرر، وهذا ما فعله الشاعر في قصيدة (مواكب النور) في ذكرى شهداء الوثبة.

مواكب النور ان ركضا وان خيبا               لا بد بالغة في سيرها الاربا

ولا المشانق تثني من عزيمتها                  ولا السجون ولا الجلاد ما ضربا

ولا ازيز رصاص البغي يرهبها             ان الرصاص يخيف المترف الطربا

لابد للشعب ان يملي ارادته                    ويسترد بروح العزم ما سلبا

ويبطش البطشة الكبرى بمن زعموا           ان الجماهير تخشى الموت والرهبا

ان البذور التي روت دماؤهم                  قد اينعت ثمرا او اسقطت رطبا

والظالمين الاولى كانوا جبابرة                قاضاهم الشعب عن اجرامهم غضبا

وعصفة الشعب لا تبقي اذا عصفت    على وحوش ارونا الويل والحربا (ص66)

لقد دعا بشير مصطفى باعتباره شاعرا ثوريا الى ضمان حرية الادباء لذا ارسى البعد الواقعي في شعره على اساس انه واقعي اشتراكي، وآمن بمستقبل الشعوب والالتزام بالقضايا المصيرية وخدمة اهدافها، ويرجع هذا الموقف الى الدور الذي يلعبه الادب في الحياة والمساهمة العملية الفعالة في مشاكل الشعب والمعارك التي يخوضها لأن الادب نتاج اجتماعي والاديب نفسه وليد البيئة التي ترعرع فيها واحتضنته بحب وحنو، فيستمد الاديب مشاعره وخياله ومزاجه وافكاره من واقع المجتمع الذي نشأ فيه. لأنه وليد المجتمع الذي اثر فيه ليعود هو فيؤثر بدوره في هذا المجتمع عن طريق الشعر والابداع، ويفرد الشاعر عندئذ نظرته الى العالم وما يعتمل في نفسه من صراع ضد اعداء الحياة، اعداء الشعب الذي ينتمي اليه، ومن المنطلق هذا، انطلق شعر بشير مصطفى الوطني والسياسي من نقد لاذع لرئيس جمهورية الولايات المتحدة (ترومان) الذي اشعل الحرب في كوريا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية في قصيدته (ترومان) وقصيدة (زفرة) التي يلعن فيها اعداء الشعب الذين يسعون الى امتصاص دماء الفقراء وتقييد الحريات وشعره في هذا الباب كثير نكتفي بنموذج آخر، هو قصيدته (ام الضحايا) التي يبين فيها الدور البطولي الذي لعبته الموصل في الحركات النضالية ضد اعداء الشعوب والساعين الى وقف تيار التحرر والتخلص من العبودية، يقول:

عبق المجد من دماء الضحايا                  فارفعوا الرأس واهزأوا بالرزايا

وقفوا وقفة الخشوع وحيوا                     من تحدوا بالعزم سيف المنايا

واجعلوا الموصل الجريئة رمزاً                واغرسوا حبكم لها في الحنايا

فهي فيكم ام الربيعين لكن                     من سجل الخلود ام الضحايا

لك يا بلدتي العزيزة روحي                   فانذريها فقد بلغت منايا

ورأيت الوحوش فيك عراة                   عفرت وجههم سمات الدنايا

هم ارادوا هذا المصير فنالوا                  ما ارادوه عبرة للبرايا

روعوا جوك الوديع وجاءوا                  بفعال تشين حتى البغايا (ص91).

ولم يدع بشير مصطفى أي حدث سياسي هام مرّ في العراق دون ان يسجله في شعره، ويقف فيه موقف المناضل الثائر ضد الطغاة والمستغلين، لأنه يرى ان العالم الخارجي ينعكس على الدماغ كما تنعكس المرايا او كما تنعكس الاجسام على شريط حساس فتطبع الصور من العالم الخارجي على الدماغ وتكون تلك الصور نسخة مطابقة لذاك العالم، لأن الوعي هو نتاج فاعلية الدماغ الا انه لا ينشأ ولا يتشكل في الدماغ الا بفضل الصلة بين الدماغ والعالم الخارجي، بيد ان الاحساسات والمدركات تتلاءم والاشياء الخارجية لا كأشارات اتفاقية او علامات تناسب الاشياء الدالة عليها وانما تتلاءم مع هذه الاشياء ذاتها فالاحساسات والادراكات عبارة عن انعكاسات للعالم الخارجي الذي يعبر عنه في الاطارين السياسي والاجتماعي. ويلجأ حين اشتداد الازمات الى نقد الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية مشيراً الى الظواهر السلبية كاشفا عن دواعيها ومسبباتها كما في قصيدته (المأساة الضاحكة) وهي قصيدة طويلة تقع في مائتي بيت، وقد نظمها الشاعر وهو في السجن عام 1949 وقصيدته (اصطدام جديد) وفي قصيدته (في الوظيفة الجديدة)، وقصيدته المهمة (لا تلعبوا بالنار) وهي تصور فترة عصيبة مرت بها مدينة الموصل وتقع في اكثر من مائة بيت من الشعر، ويحسن بشير مصطفى تجسيد الصراع الطبقي وتصوير الازمات الاقتصادية والاجتماعية وقد يلجأ الى الاسلوب الساخر لاعطاء الحالة الاجتماعية بعداً جديداً. فهو يصور حالة معلم في القرية تصويراً ساخراً، وهو في الحقيقة يسخر من وضعه الاجتماعي حينما كان يعلم في احدى قرى الموصل، ومما يقول بشير مصطفى:

اذعنت للأمر وجئت القرية        لم اكترث بكذبة او فرية

فلم اطل حتى شعرت اني           في قفص وضعت او في قن

الماء فيها مالح اجاج                واللحم لا يحظى به المحتاج

واهلها بمنتهى السخافة             قد امنوا بالجن والخرافة

وسمر في الليل لا اخبار              تزيل ما يتركه النهار(ص100-101)

وقد يلجأ الشاعر بشير مصطفى الى الدعوات الاجتماعية التقليدية فيستثير عواطف المحسنين ليستدر ندى ايديهم لتقديم المساعدة الى اليتامى والمعوزين والفقراء كما في قصيدة (اليتيم الفطيم) الا انه لا يذعن الى الاستسلام والرضوخ كما كان يفعل الشعراء التقليديون في هذا المجال وانما يمزج بين الظاهرة الاجتماعية والظاهرتين السياسية والاقتصادية، مثل قوله:

حكمت عصبة الضلالة فيهم           فعليهم من ذلة اعباء

قد علت عيشهم سحابة ذل            ناء منها عبيدهم والاماء

مسخت نعمة الحياة فهانوا          حين ماتت في الانفس الكبرياء (ص69-70)

وينقل بشير مصطفى صور البؤس والفاقة في لوحات جميلة متقنة ومثل هذه اللوحات كثيرة في شعره وقد تأتي لوحاته نقلية فتستقيم عندئذ على اسلوب منطقي، يحس ويرى، او تكون اللوحة رؤيوية تتخطى حدود الرؤية المباشرة الى افق يجسد فيه الشاعر خلاصة موقف موحد من جزئيات المشاهد والاحاسيس التفصيلية ليكشف بوساطتها عن المشاعر والافكار ويوحد بين الاشياء ليمتلك المتلقي عن طريق اللوحة هذه حقيقة الاشياء من دون تزييف او تدليس كما هو الحال في مقطوعته الشعرية (صورة)، حيث يقول الشاعر:

ومشى الوالد مكفوف البصر            ينقل الخطو بضعف وخور

وبيمناه عصا معوجة                      وبيسراه يد الابن الذكر

وتراءت طفلة من خلفه                  امسكت في ثوبه البالي القذر

اثر البؤس عليها ظاهر                    من ذهول وشحوب وضجر

تتلهى برغيف يابس                       هو للمحروم ملهاة الصغر (ص74).

وهو اذ يدعو الآخرين للتبرع يجد نفسه عاجزاً عن تقديم العون لضيق ذات اليد، فيقول:

اذا كان للاحساس والفكر قيمته              فاني اليكم فيهما اتبرع

وما انا الا من جموع غفيرة                تعيش ببؤس والمظاهر تخدع (ص28)

ويلجأ بشير مصطفى الى التصوير الكاريكاتيري لتصوير حالة اجتماعية وخاصة اذا كانت الحالة تخصه شخصياً كما فعل في الشاعر في قصيدة (عريضة) وفيها يطلب من الوزير مصطفى العمري وكان وزيراً للاقتصاد آنذاك اعادته الى الموصل بعد ان تم نقله الى كربلاء بسبب وشاية مغرضة، وقد اضحكت القصيدة الوزير واعاده الى بلدته، ويتميز الشاعر بقدرة فائقة على السخرية من الاشياء الصعبة والمحن التي يتعرض لها شخصياً وهي كثيرة في حياته العصيبة التي لاقى فيها الكثير من العنت والفقر والملاحقة والاضطهاد، ومما يقول فيها:

كنت في بلدتي لعام تقضى               كاتبا في وظيفة الاحصاء

اتقاضى مرتبي بين اهلي                 فيفينا بلقمة وكساء

غير ان الوشاة وا اسفاه                   قد رموني بتهمة نكراء

زعموا انني اروج رأيا                   هو ضد البلاد، ضد السماء(ص36)

ويضم الديوان قصائد عدة تتناول موضوعات اجتماعية مثل قصائده (الشباب، والخير والحرية، يا شعب، الحظ، مع الرعية في العراق، يوم الرتب، شك، رسل الثقافة، انا والشعب، ايها النشئ، ذات ليلة، في عتاب صديق، معركة، العيد، يا ام احمد، امنية، شريعة الغاب، شح، احلام، في الخمسين، في خريف العمر، آية شكري).

ويحتل التأمل في الحياة وفي الخلق والوجود مكانة خاصة في شعر بشير مصطفى، ويكثر من التساؤل القلق عن الوجود وسر الكون والولادة والموت والارزاق والمصير والحظ كما في قصائده (مصير شاعر، وحلم شاعر، ومع الله، وانشودة الحياة، و ايها الصيف، والزهرة) ويبدو في قصائده هذه حائرا لا يجد جوابا مقنعاً على اسئلته المتعددة: ولنستشهد بقصيدته مصير شاعر الذي نضمها على شكل الموشح يقول فيها:

سئمت روحه الحياة فهابنا               واستحالت منه الضلوع ضراما

واشتكي العدم والهوى والشعاما          ويمني الفؤاد عاما فعاما

                        ويمضي حياته بالاماني

وهي موشحة طويلة يصف فيها قلقه من الحياة والمصير وحيرته من الحياة نفسها وسبب وجودنا فيها وسأكتفي بالمقطعين الاخيرين منها:

هام في علة الوجود وحارا              وتبدت له الحقائق نارا

فتمنى لو يكشف الاستارا               يرى النور خلفها والمنارا

                     او بصيصا من حكمة الرحمن

لم يزده التفكير الا هموما               وانكماشا وعزلة ووجوما

رامها جنة فكانت جحيما                ورجا خمرة فعبّ سموما

                      وقضى مثل سائر الديدان

ويكثر شعر المناسبات في ديوان (الحان قلبي) للشاعر بشير مصطفى، وهو الرجل الودود المعروف بعلاقاته الحميمة مع الآخرين وصداقاته العديدة، واذا تركنا جانبا المناسبات الوطنية التي اتينا على ذكر بعض منها في شعره السياسي، وهو المناضل المعروف الذي تشهد له الساحة السياسية بصلابته ومواقفه الوطنية، فاننا نجد لها عدة قصائد في مديح الرسول الاعظم القاها في المحافل الدينية بمناسبة المولد النبوي الشريف مثل قصيدتي (ثبات محمد، و المنقذ الاعظم) وله قصيدة دينية بعنوان (على ضريح الحسين) يبدو انه نضمها حينما نقل الى كربلاء وزار مرقد الامام الحسين، وقصائده الدينية تمتاز برصانتها وطولها وقدرته على الربط بين الماضي والحاضر.

وقد رثى بشير مصطفى عدداً من الشعراء والاهل والاصدقاء نذكر منها قصائده (في ذكرى الشاعر الموصلي المرحوم اسماعيل فرج، رثاء لأبي ماضي، في تأبين الرصافي عام 1946، الى روح اقبال، دنيا- وهي في رثاء صديق-، دمعة الى امي، لوعة-وهي قصيدة في رثاء استاذه (فرنسيس بديثه) ويمتاز شعر الرثاء عند بشير مصطفى بصدق المشاعر وحقيقة الالم وحرارة الحزن، فهو لايرثي احدا الا عن حزن مكين ولوعة صادقة. وله قصيدة يهنئ فيها (باريس) بتحررها من سيطرة النازيين في اواخر الحرب العالمية الثانية.

وله قصائد اخوانية تعبر عن نقاء سريرته ففي قصائده (الى الجواهري، والى الشاعر ابي ماضي، والى الشيخ الشبيبي) ما يدلل على حبه واعجابه بهؤلاء الشعراء الكبار، وفي قصيدته (ضارب العود) التي اهداها الى الموسيقار رياض السنباطي حب واعجاب بفنه وفي قصيدته (مهلا ابا مصطفى) حزن ووداع حار لابراهيم الواعظ (صاحب الندوة العمرية) حين نقل من الموصل بعد ان كان رئيسا للمحاكم فيها، وخلق في المدينة جوا ادبيا عاليا. وقصيدته (الى يوسف الصائغ) مداعبة طريفة وانكار من الشاعر للالحاح الصائغ على رسم لوحة تخلده، وفي قصيدته (مداعبة) مرح وهزل مع صديقه المحامي (محي الدين ابو الخطاب) الذي مثل امام القضاء بسبب دعوى اقيمت على جريدته (الاديب) الموصلية، وافرجت عنه المحكمة فداعبه الشاعر بشير مصطفى بهذه القصيدة. وبشير مصطفى مر المذاق في هجائه ولا نجد في ديوانه غير قصيدتين في الهجاء هما (دولة، وقصة عجب) وفي كليهما هجاء سياسي مر. وهما قصيدتان طويلتان، ونقتطع من القصيدة الاولى هذه الابيات للتدليل على سخريته اللاذعة ومرارة الهجاء لديه، حيث يقول:

هل للحيا من بائع              يا دولة الضفادع

يا دمية التاريخ يا              اضحوكة المجامع

يا سبة الاجيال يا              فجيعة الفواجع

وجميع قصائد الديوان، قصائد عمودية، فيما عدا قصيدة واحدة بعنوان (وهم) جاءت على نمط الشعر الحر (الحديث)، الا انها تثبت مقدرته على النظم في وزن التفعيلة، يقول فيها:

ايها الوهم الذي عشناه            دهرا

ايها الشر الذي خلناه             خيرا

فاتخذنا ثم عدنا لخداع الناس     جهرا

ننشر السحر الجديد

والتغني اننا نسعى لتحرير العبيد

من هوى طافح وجبار عنيد

ما عهدناك سرابا

ما عهدنا الخير الفاظا واحلاما عذابا

الى اخر القصيدة الجميلة، وقد خمس قصيدة شوقي (علموه) والتي غناها الموسيقار محمد عبد الوهاب. وترجم شعرا قصيدة للشاعر الاميركي (لونك فلو) بعنوان مزمور الحياة.

وقد ضم ديوان (الحان قلبي) خمساً وعشرين ومائة قصيدة.

بشير مصطفى كما عرفته: ان من يعرف معلما فذا ومربيا مثاليا مثل بشير مصطفى لا يمكن ان ينساه كنت وقتها في الصف الرابع الابتدائي العام الدراسي 1940-1941، حينما دخل الصف معلماً شابا فارع الطول حاد القسمات عرفنا فيه معلم اللغة العربية، في المدرسة القحطانية الابتدائية، وكان الدرس الاول في قواعد اللغة العربية، وهي مادة ندرسها لاول مرة، وتعلمنا الدرس الذي استهوانا من خلال الطريقة التي شرحه بها معلمنا بشير مصطفى، وفي اليوم التالي عرفنا ما هو الشعر، كتب قطعة لبشار بن برد على السبورة ورددها امامنا حتى حفظناها وسجلناها في ادمغتنا فضلاً عن كتابتها في دفاترنا، ومن يومها احببنا درس اللغة العربية واحببنا معلمها الاستاذ بشير مصطفى، وفي الدار كنت اطري معلم اللغة العربية فسألني اخي عنه فأجبته، اثنى عليه اخي واخبرني بأنه صديقه وانه شاعر ايضاً. ثم عرفنا الكتاب عن طريقه ليس كتاب القراءة المقرر علينا وانما عرفنا كتاب النظرات للمنفلوطي ثم كتب المنفلوطي الاخرى واذكر انني قرأت جميع كتب المنفلوطي في تلك السنة بتشجيع من معلمي بشير مصطفى، واذكر انه استعار مرة كتاب (تاريخ الوزارات العراقية) للحسني من اخي، فجلبته له وشجعني على القراءة فيه، وبواسطته عرفنا الطريق الى مكتبة المدرسة وكانت تضم كتباً كثيرة ونفيسة، كان يحثنا على القراءة فيها الا انها كانت فوق ادراكنا ومعقدة الاسلوب مثل كتب طه حسين والعقاد والجاحظ ودواوين المتنبي وابي تمام والبحتري. لقد كان الدافع الاول لاهتمامي باللغة العربية وادابها وشغفي بالقراءة يعود الى تشجيع استاذي لي وتعريفي على الكتاب والمكتبة. ومما زاد في حبنا له، شجاعته وكرهه للانكليز، فحينما  نشبت حركة مايس عام 1941 ضد الانكليز، كان يخطب بجموع الطلاب كل صباح اثناء تحية العلم، وحينما كانت طائرات العدو تغير على المدرسة ونحن في الصفوف كان بشير مصطفى المعلم الوحيد في المدرسة الذي يبقى في الصف دون ان يهرع الى الملجأ مختبئاً كما كان يفعل بقية المعلمين، حتى انه علمنا درساً في الصمود واصبحنا لا نخاف الطائرات الانكليزية المحلقة فوق سماء المدينة، واذكر حينما مزق الطلاب كتب اللغة الانكليزية سخر من الطلبة ودعاهم الى عدم تمزيق الكتب قائلاً: كيف نستطيع الانتصار عليهم اذ لم نفهم اساليبهم وخططهم؟. وحين رأى الدهشة وعدم الفهم في اعيننا وضح الامر لنا نحن الصغار، وقال: علينا ان نتعلم لغتهم لنتمكن من مواجهتهم. واضاف انا اكرههم اكثر مما تكرهونهم الا انني اتكلم لغتهم بطلاقة واقرأ كتبهم.

وبعد فشل حركة مايس اعتقل استاذنا بشير مصطفى، ولم التقيه الا لماما في الشارع وانا في طريقي الى المدرسة المتوسطة والاعدادية، ووجدته واقفاً على قبر اخي بعد ان واريناه التراب ينشد قصيدة رثاء ابكتنا جميعاً في خريف عام 1948.

ومضت الايام سراعاً، رأيته في المظاهرات يتقدم الصفوف كالأسد الهصور، ودارت الايام ورأيته اخر مرة في منتصف الستينات، ويا ليتني لم اره وهو على تلك الحال، ثم واراه الثرى، وفقدنا بفقده شاعراً مجيداً ومعلماً قل مثيله ووطنياً لا يشق له غبار، هذا هو معلمنا وشاعرنا الذي تناساه الدارسون، ولم يعد احد يذكره.

ويذكر ذنون ايوب في سيرته الذاتية (ذو النون ايوب قصة حياته بقلمه) (ج6 ص48) بان بشير مصطفى عندما ذهب الى بغداد في اوائل الاربعينات قصده وكان مولعاً بدراسة اللغة الروسية.                                          

10 / 3 / 1993

 

الخاتمة

يعد بشير مصطفى 1917-1979 من الشعراء المهمين في النصف الاول من القرن العشرين فضلاً على انه ابرز معلمي الموصل في اللغة العربية، وكان لاتجاهه السياسي الاثر الكبير في مطاردة الامن له في جميع العهود التي مرّ بها العراق وسجن اكثر من مرة حتى بلغ اخيرا درجة التشرد.

امتاز شعره بالقوة والرصانة وجزالة العبارة وهو من افضل شعراء الشعر العمودي في الموصل ولم يكتسب الشهرة التي يستحقها بسبب مطاردة الشرطة له ومحاولة التغطية على كل اثر من اثاره كي لا يعرف محلياً وعربياً.

نظم بشير مصطفى على جميع البحور العربية ولا سيما بحور الطويل والبسيط او الوافر والمتدارك والكامل والرمل وفي شعره يسخر كثيراً من الانتهازيين الذين يعرفون من اين تؤكل الكتف وحقق شعراً ثقافياً سياسياً متقدماً تمثل في معظم شعره وامتازت بعض قصائده برومانسية جديدة وخيال محلق. ويؤمن بشير مصطفى برسالة الادب ويجب ان يكون شعراً مسيساً ويعقد محاورة طريفة بين الشيطان و (تشرشل) رئيس وزراء بريطانيا ابان الحرب العالمية الثانية. وبين في شعره الدور البطولي للامم ضد الاستعمار و ذكرى الشهداء الذين سقطوا في الحروب ويسخر من وضعه الاجتماعي عندما كان معلماً في احدى القرى. ويلجأ الى التصوير الكاريكاتيري في وصف الاوضاع الاجتماعية ولا شك التي تخصه. وله شعر مناسبات تقليدي، وبقي ديوانه مخطوطاً الى الآن ينتظر من يمد اليه يد الانقاذ.

المصادر:

جريدة الفنار، ع 4، في 4 / 2 / 1954

جريدة الفنار، ع 13، في 7 / 5 / 1954

ديوانه المخطوط، الحان قلبي.

 

مركز دراسات الموصل