http://www.dr-omaraltaleb.com/

 

مواقـف محرجـة صادفتنـي أثنـاء العمـل فـي جريـدة الحدبـاء

      


أ.د.عمر محمد الطالب
لقد كنت وعددا من زملائي مع جريدة الحدباء منذ كانت فكرة حتى استوت حقيقة ومضت تصدر بانتظام كما لم تصدر جريدة أخرى في العراق. وعلى الرغم من الصعوبات التي جابتها واعترضت طريقها إلا أنها كانت أقوى من كل الصعوبات واستطاعت اجتياز العقبات التي اعترضتها.
ومنذ عددها التجريبي وحتى شهر تشرين الثاني من عام 1984 كنت مسؤولاً عن تحرير الصفحة الثالثة (دراسات).. وللدراسة مفهوم عندي غير مايتصوره البعض بأنه مقال، لذا أردت أن أطبق مفهوم الدراسة الذي كنت اتبعه في (مجلة الجامعة) والتي وصلت أوج النجاح حتى توقفت عن الصدور عام 1982 بسبب التمويل لنشوب الحرب العراقية- الإيرانية وسياسة التقشف التي لم تتبع خلال سنتي الحرب السابقتين. فتوقفت الصحف والمجلات المحلية إلا أن جريدة الحدباء اجتازت الأزمة بنجاح عن طريق الإعلانات والتمويل الذاتي.
بدأنا العمل زملائي وأنا مجاناً والمجان يسري حتى على المقالات أو الدراسات التي نشرها في الجريدة واستمر هذا النظام حتى استطاعت الجريدة أن تكون لها رأس مال خاص فكان يتقاضى المحرر ثمانين ديناراً ثم سمح اخذ أجور للأعضاء عما يقومون بنشره وكان يتراوح بين النصف دينار والخمسة دنانير.
إنها أيام جميلة التي قضيتها في العمل بجريدة الحدباء حتى سافرت موفدا إلى المغرب للتدريس في جامعاتها ،ولكن علاقتي بقيت حميمة مع جريدة (الحدباء) عن طريق النشر المستمر فيها حتى الوقت الحاضر وفي العدد المبارك الألف الأغر وكل عمل فيه مواقف محرجة. إلا أن الإحراج والمواقف المحرجة في الصحافة اشد ذيوعا وإحراجا من غيرها من الأعمال ومن هنا جاء اختياري لهذا الجانب.
إن أول موقف محرج صادفني منذ بدء عملي في جريدة الحدباء ندرة الدراسات الواردة إلى الحدباء وما كانوا يطلقون عيه دراسة ليس أكثر من مقال تغلب عليه الغالب السذاجة مما اضطرني لأخذ دراسات من (مجلة الجامعة) وكانت كثيرة ونشرها في جريدة الحدباء وأوقعني هذا الفعل في عده إشكالات فقد اعترض أصحاب الدراسات لاعتقادهم بان المجلة ولاسيما مجلة مثل مجلة الجامعة أكثر أهمية من جريدة مبتدئة كجريدة الحدباء (آنذاك) فضلا عن عدم حصولهم على الأجور التي تدفعها مجلة الجامعة، وانتظار أصحاب المقالات نشر مقالاتهم في صفحة دراسات دون جدوى فضجوا بالشكوى لدى رئيس التحرير. أما الموقف المحرج الذي لايمكن أن أنساه فقد قمت بتشريفي لأستاذي الكبير الدكتور صلاح الدين الناهي وكنت قد قرأت خبرا عن وفاته في صحيفة بغدادية وبعد أن امتلأت بكاء ونشيجا على فقد أستاذي الفاضل والعلامة الكبير في القانون التجاري لم استطع النوم وجلست في هداه الليل اكتب نعيا عاطفيا لم اترك فيه ذرة من عاطفة ومما أكنه له من حب ومااعانيه من حزن وأسى إلا وأودعته في هذا النعي، وأخذته في اليوم التالي وأنا متورم العينين من البكاء إلى جريدة الحدباء، والكل يعرف أستاذنا صلاح الدين الناهي فلم يعارض احد نشر النعي. وعند صدور الحدباء مساءا قرأت ماكتبت وأنا اعيد مناحة الأمس وفي منتصف الليل رن جرس الهاتف، فهرعت إليه لأسمع صوتا نسائيا متلهفا متعجبا وقال الصوت بلهفة حزينة : د. عمر أنا ابنة صلاح الدين الناهي ، من أين لك هذا الخبر، لقد حاولت الاتصال بابي في عمان وكان الدكتور الناهي قد أحيل على التقاعد وتعاقد مع الجامعة الأردنية في عمان_ وهو بصحة جيدة ويبلغك تحياته.
صعقت لما سمعت وكنت في اشد المواقف حرجا في حياتي وقلت بصوت فيه مزيج من الفرحة والحرج والأسف على ما بدا مني بحسن النية: لقد قرأت خبرا في صحيفة بغدادية واكتفت الابنة البارة بالقول: لقد أقلقتنا كثيرا حتى اتصلنا بابي.
وضعت سماعة جهاز الهاتف ووجدت نفسي وقد جلست على الأرض وأنا بين عواطف مختلفة: الفرح لحياة أستاذي: والاسى لما سببته لأسرته من قلق والحرج مما نشرته دون وثوق كامل ومنذئذ أقلعت عن كتابة أي نعي لأي كان مهما كان قريبا إلى نفسي وبعد ايام وصلتني رسالة من الدكتور الناهي في منتهى الطرافة- وهو رجل ظريف_ يؤكد لي انه لم يسمع إن أنسانا نعى في حياته ويشكرني على عواطفي تجاهه ويطلب نسخة من الجريدة وكنت قد أعددت تصميما لما كتبته وأنا في اشد حالات الخجل من القراء فجاءني الإنقاذ بان نشرت رسالة أستاذي الكريم محل اعتذاري الذي كان سيوقعني بحرج لامثيل له .
وهناك مواقف اقل حرجا فقد وجدت أن الأخبار الفنية قليلة في الجريدة وكان احد المراسلين يرسل هذه الأخبار من ايطاليا ويكتب فيها سالم العزاوي بين حين وآخر فأردت أن أسد هذا النقص ، وأنا المتابع لقضايا الفن والخبير في السينما، فاقترح علي احد الزملاء أن اكتب عن الفنانين القدماء والأفلام القديمة وبدايات السينما العربية منذ 1927 وكان مقالي الأول عن عزيزة أمير وأعقبته بعشرات المقالات بدءا من بهيجة حافظ وانتهاء بفاتن حمامة وقال لي رئيس تحرير الطليعة الادبية : انتظر الحدباء لاقرأ ماكتبته في زاوية الفن وكان هناك من يوقفني في الشارع ويسألني عن بدر لاما وزكي رستم وماري كويني وإذا بي اتفاجا في احد الاجتماعات للجريدة بهجوم زميل على هذه الزاوية وإنني لااضيف شيئا وإنما انقل هذه المعلومات من كتب الأغاني الرخيصة وهي لاتناسب حرمة الجريدة دهشت لاعتراض الزميل الذي كان يردد اعجابه بما اكتب عن الفن وأعلمته بان المعلومات غير مسطرة في أي مكان وإنما هي مخزوني المعرفي الخاص بي أنا الذي كنت أشاهد سبعة أفلام في الأسبوع قبل أن ينتشر الفيديو عام 1980 وكنت أشاهد سبعة أفلام في اليوم ، واستمريت في زاويتي ونشرت في كتاب بعنوان: (السينما العربية) في المغرب عام 1987وكتبت يوما عن مغنية ظهرت في الثلاثينات من القرن الماضي مع عبد الغني السيد في فلم (وراء الستار) واختارها محمد عبد الوهاب للوقوف أمامه في فلم (ممنوع الحب)المأخوذ عن مسرحية روميو وجوليت لشكسبير على الطريقة المصرية وقدم فيه أغان بأسلوب جديد لذا عده البعض أفضل أفلامه وبلغت( رجاء عبده) القمة في فلمها (الحب الأول) مع جلال حرب وذاعت أغنيتها (البوسطجية اشتكوا) حتى أضحت على كل لسان وكان المقال كيف تدهورت رجاء عبده من القمة إلى الهاوية وقد أثار المقال المعجبين القدامى برجاء عبده وكنت أظن ألا احد يتذكرها لأنني ذهبت إلى احد محلات التسجيل ذات يوم وطلبت من صاحب المحل شريطا لرجاء عبده فسألني لم اسمع بمثل هذا الاسم هل هو مغني أم مغنية؟ فخرجت من عنده كاسف البال وذهبت إلى محل تسجيلات كان يملكه الفنان زكي إبراهيم وطلبت منه شريطا لرجاء عبده فأبدى زكي دهشته وبدا السرور على وجهه وقال : هل تعرفها وعندما عددت له أغانيها التي أريدها أجاب زكي بأسى :لاتتعب نفسك لم تعد أغانيها موجودة في الموصل .ولا احد يعرفها الآن وعندما كتبت عنها كنت أظن ألا احد في الموصل يتذكرها وما أن خرجت لرياضتي اليومية _المشي_ حتى قابلني رجل في الدواسة وقال لي غاضبا ماكتبته ليس صحيحا لايمكن ان تسقط مغنية عظيمة مثل رجاء عبده .
وزاد العتب كلما سرت مسافة أطول وامتنع بعض المعارف عن السلام علي بسبب ذلك المقال كما خاصمني آخرون، وقبل أسبوع كنت أجالس المرحوم عبد الباسط يونس وتحدثنا عن الصحافة الموصلية فقال لي: لقد كنت اقتطع ماتكتبه في الحدباء عن الفن وعن الشخصيات الموصلية واضعها في ملفات خاصة ألا أنني (زعلت) عليك عندما كتبت عن رجاء عبده فان سقوطها يعني سقوط الغناء في الوطن العربي، فأحسست بالحرج وقلت له، رحمه الله، ولكن هذه هي الحقيقة.
أجاب عبد الباسط يونس بلطا فته المعهودة: ولو مثلك من يتذوق الفن لايجدر به أن يكتب عن مغنية رائعة مثل رجاء عبده تلك الفنانة الأصيلة حالات سقوطها شعرت بالحرج بعد مرور مايقارب العشرين سنة على كتابة المقال، وأدركت أن الحقيقة يجب أن لاتعلن دائما لأنها قد تسئ إلى المعجبين وتغضب آخرين بحيث يناصبوك العداء.
إن مساحة النشر لاتسمح باكثر من هذه الصفحات القليلة وسأدع المواقف المحرجة الأخرى إلى فرصة أخرى، وأنا أزجي إلى جريدة الحدباء أحر التهاني بمناسبة صدور عددها الألف ولجهادها وصمودها طوال هذه السنين القاسية واشد على أيدي العاملين المجاهدين فيها،ولتبقى دوما الصحيفة التي تسمع صوت الحدباء للقراء في الموصل وخارجها.