في ذكرى فقيد العلم والمعرفة والعلماء الأستاذ الدكتور عمر الطالب

 

د. صالح محمد عبد الله العبيدي

كلية التربية / قسم اللغة العربية

نلتقي سوياً أساتذةً وطلاباً أصدقاءً وأبناءً مخلصين لنحيي ذكرى أستاذ الأجيال، المؤسس الأول والمدرس الفريد من نوعه، والمحاضر الذي لا يُملْ. إنه بحق النبع الذي اغترف الكبير والصغير من علمه الرصين المتين ذلك هو أستاذنا الدكتور عمر محمد مصطفى الطالب.

رحمه الله وغفر له وأجزل له العطاء لقاء علمه وسعيه الدؤوب لنشر المعرفة والعلم وحرصه الشديد على أداء مهمته التعليمية على أكمل وجه حتى وهو يصارع الألم في أنفاسه الأخيرة.

كان كما وصفه أكثر الذين تابعوا مسيرته التدريسية "أول الناس حضوراً وآخرهم مغادرة". ولم يكن ليضعف عزيمته أي شاغل مهما كان جسيماً عن أداء رسالته العلمية، لقد كان إحساسه بأداء الواجب عالياً لدرجة أحرجت الكثير من الأساتذة وحتى الطلاب، لم نسمع أو نقرأ في يوم ما أنه تلقى عقوبة إدارية أو حتى نقداً يؤشر على هفوة ما في ممارسته لعمله أو في التزاماته الإدارية، وهو الذي قضى أكثر من خمسين عاماً فيهما.

وإذن فإن القلم مهما كان سريعاً وقديراً فإنه ليعجز عن الكتابة عن أي شيء نتكلم ونكتب عن الأستاذ الدكتور عمر (الإنسان) وهو المعروف بقوة شخصيته وموضوعيته العلمية وبساطته ومساعدته لطلابه، أم عمر (الأديب) وهو الذي ترك مجموعة رائعة من الروايات والقصص القصيرة التي تؤكد على قدرته وبراعته سواء على مستوى اللغة الشعرية أم الرؤية الإبداعية، أم عمر (الناقد) وهو الذي ترك لنا مجموعة كبيرة من الكتب النقدية الرصينة التي حَوت خلاصة تجربته النقدية والقرائية طويلة الأمد، حتى أن قسماً من كتبه أصبح مراجع مهمة لذوي الاختصاص وكذلك كتباً منهجيةً تُدرَّس لطلبة كلية الآداب والتربية على السواء. فضلاً عن العشرات من البحوث والمقالات المنشورة في الدوريات المحلية والعربية التي تناولت شتى صنوف المعرفة الإنسانية، أم عمر (المؤرخ) خصوصاً في توثيقه لسلسلة الأعلام في مدينة الموصل، وهو عمل شاق استغرق منه وقتاً طويلاً.

أم أتحدث لكم عن تجربتي الإنسانية والعلمية معه التي امتدت لأكثر من خمس عشرة سنة من التلمذة والتربية العلمية، وهو الذي ناقشني في الماجستير وأشرف على أطروحتى في الدكتوراه.

أم أتحدث عن طريقته الفذة الساحرة في التعليم سواء في طريقة إلقائه للمحاضرات أم في الوصايا والاستشارات العلمية التي كانت الحافز النوعي في انطلاقتنا التعليمية.

حتى أنه كان يحفز فينا الحماس العلمي فنبذل غاية جهدنا كي نشعره بمدى اهتمامنا بمحاضراته، وسباقنا الدائم لسماع تقييماته لنشاطنا وقدراتنا العلمية. وكنا ندرك تماماً جديته، وعدم تهاونه في نقدنا نقداً لاذعاً في حالة تراجعنا أو تراخينا عن أداء الواجب أو البوح بكلام لا علاقة له بالموضوع.

لقد كان بحق أستاذ كرسي الأدب –بالمعنى الإطلاقي لهذه الكلمة- فضلاً عن درايته الموسوعية بقضايا خارج مجال اختصاصه مثل الفلسفة وعلم النفس وعلم ال جتماع، وتستطيع أن تتأكد من درايته الموسوعية هذه من خلال مطالعة كتبه وبحوثه الجمة ومحاضراته القيمة التي لا تعول كثيراً على الكتاب المنهجي المقرر، لا بل يستفيض كثيراً في توسيع رقعة الموضوع عبر الأمثلة الواقعية التي تجعل الطالب يفهم الموضوع بسهولة ويسر.

فضلاً عن مناقشاته الرائعة لطلبة الماجستير والدكتوراه التي نحرص كثيراً على حضورها نحن وآخرون كثر يأتون في وقت مبكر كي يستفيدوا ويستمتعوا ويتعلموا دروساً في النقاش العلمي الرصين.

وكان –رحمه الله- يشدد كثيراً في مناقشاته حرصاً منه على تعزيز دعائم البحث العلمي، ومحافظةً منه على قيمة العلم وإحترامه له، وكان يتألم كثيراً لما وصل إليه المستوى العلمي خصوصاً في العقدين الأخيرين من حياته.

والآن أنا أتذكر بوضوح تلك اللحظات الأولى من حياتنا الجامعية حينما وضعنا أقدامنا على عتبة مبنى كلية الآداب القديم، وقتها طالعنا بإندهاش بالغ ذلك الرجل الأبيض اللون المشرَّب بحمرة، وهو يرتدي قميصاً مشجراً ذا ألوان داكنة وفاتحة متداخلة تشعرك بذلك النوع من الغموض بين الأشياء المتباعدة وهو يكتفي عند التحية بحركة بسيطة من شفتيه تتبعها إبتسامة عادية، قال عنها البعض: "إنها موناليزية لولا رقة الشفتين وصرامة العينين".

كان يمشي خلفنا ببطئ يحمل قبالة صدره وردة يشمها بين الفينة والأخرى بطريقة رومانسية لم نعهدها في تلك الأيام القاسية، تعمدنا الوقوف كي يسبقنا لكنه باغتنا ودلف إلى غرفته دون أن يوصد الباب، رجعنا إلى الخلف قليلاً وأمام الباب رأيناه يجلس قبالة الشباك وفي يده ذات الوردة، يشمها بعمق وأتصور أو هكذا تخيل لي أن ذهنه كان يسرح في المحيط هناك عبر النافذة القديمة المتربة، لكن هذه المرة على غير عادته وجهه شاحب، بياض في صفرة وملامح وجهه اللينة غدت صلبة حادة وعيناه تقولان عتباً وتبعثان بشكاية إلى الأفق البعيد.

كنا نتلهف لرؤية هذا الرجل الفريد الغريب في السنة الأولى، لكننا لم نلقاه إلا في السنة الرابعة.. دخل قاعة الدرس كنا نجلس على غير نظام ألقى تحيته المعهودة برقة بالكاد سمعناها نظر إلينا بجدية يتفحص وجوهاً جديدةً لكنه لم يبد رغبة في التعرف عليها أخرج أوراقاً وضعها على الطاولة، وضع المنظار قبالة عينيه بطريقة دراماتيكية أصبحت فيما بعد مألوفة، ثم رفع ببصره إلينا وحرك شفتيه قائلاً: "إسمعوا شباب.. هذه سنة جديدة قد تسمعون فيها كلاماً لم تسمعوه من قبل فإذا أردتم أن تستفيدوا كونوا أكثر جدية ودعوا العبث والفوضى جانباً".

وفعلاً سمعنا كلاماً جديداً ورأينا رجلاً عجيباً متفرداً ذا شخصية متماسكة صارمة أحياناً رغم سهولتها، لا يقبل الوساطة ويركز بشكل كبير على جهد الطالب كما ويشجع الطلاب الذين يتوسم فيهم نبوغاً مضاعفاً.

وبالرغم من كل هذه السنين التي لازمناه فيها، فإن أحداً ما لا يستطيع أن يعرف ما في جعبة ذلك الرجل من أسرار وحتى الذي أخرجه منها لم يكن كافياً الكل ممن عرفوه كانوا متعطشين لمعرفة المزيد لكنه –رحمه الله- هكذا أراد لذاته أن تحيا ونحن كنا نحترم خياره هذا ونتحاشى الخوض في أمور شائكة وحساسة تجعله يغير رأيه فينا في وقت عصيب كنا نحرص فيه على تعزيز ثقته بنا، وإستمرار دعمه العلمي لنا وهو من جانبه كان حريصاً كذلك على أن نبقى في الصورة التي رسمها لنا صورة الطامحين إلى تحصيل "الفائض المعرفي" بالعقل لا بالعاطفة. وكأن لسان حاله يقول:

"إذا أردت شيئاً جميلاً ونبيلاً فعليك أن تضحي بأشياء أخرى أجمل وأنبل إذ الرغبة ليست كل شيء في الوجود، المهم أن تصل وتحقق شيئاً بعيدً عن الغريزة قريباً من العقل قدر المستطاع".

لكن بالرغم من ذلك فإن هناك أسئلة ما تزال إلى الآن عالقة متعثرة..

- هل أراد لذكراه الخلود؟ أم أراد لذاته التفرد؟

- هل كانت هناك أسرار جرهرية في حياته؟ أم كان كغيره من الناس يحمل أسراراً عادية لكنه لم يشأ البوح بها لعدم ثقته بالآخرين؟

- ما هو سر هذا النشاط العلمي الفائق والإلتزام الدقيق بالعمل المهني؟ هل كان تعويضاً عن شيء مفقود؟ أم أنه إحساس عال بالمسؤولية تؤكد عن وعي معمق بالحياة؟

- هل شعر يوماً ما فعلاً بتفرده؟ أم أنه كان يكتفي بسماعه من محبيه ومن آخرين كان هو سبباً في تحقيق طموحاتهم؟

- ثم ما هو السر في كثرة خصومه؟ ولماذا كان فرحاً بذلك؟

أتصور أني سألته مرة عن ذلك.. ابتسم ثم قال: "الآخرون إذا رأوا شخصاً ما يتفوق عليهم فإنهم لن يكتفوا بالنظر إليه " ثم أضاف: "الناس هنا يفكرون بطريقة مختلفة إذا شعروا بأن أحداً ما ينافسهم فإنهم يفعلون الكثير من أجل إعاقته حتى ولو كلفهم ذلك سمعتهم".

الحقيقة أني لم أدرك إلى الآن السر في انجذاب الناس إليه، رغم معارضتهم للكثير من أفكاره وكان لسان حالهم يقول: "إنه بالرغم من اختلافنا العميق معه لكننا لا نستطيع أن نمنع أنفسنا من الانجذاب إليه والإقرار بقوة شخصيته وتماسك مفاصل ثقافته الموسوعية حالما يبوح بها بطريقته الساحرة في إدارة الحوار في المحاضرة".

كنت أحاوره كثيراً مع إدراكي بأنه يمتعض كثيراً من الثرثرة والكلام الفائض عن الحاجة، لكن كان يقبل مع شيء من التحفظ ملاحظاتي النقدية على بعض كتبه وقصصه، كان يقرأها بجدية ثم يردف قائلاً: "أنت ما تزال صغير لكنك تفكر بطريقة جيدة، لا تحاول أن تخرج كل الأشياء دفعة واحدة".

وإذن فإن الشخصية القوية المتماسكة، وطابع الغرابة والتفرد الذي التزم به من أول الأمر إلى آخره وأسلوبه اللاذع في النقد الذي جعل الآخرين يحسبون له ألف حساب، وسلوكه المنضبط في كثير من الأمور التي لا ينضبط بها الآخرون، وعفة نفسه عن الانهماك في تفاهات الحياة، وصرامته في اتخاذ القرارات مهما كانت عواقبها وخيمة، وموضوعيته وعدم مجاملته للآخرين، وعدم تقبله للفساد مهما كان مغرياً ومساعدته واهتمامه البالغ بطلبته خصوصاً المميزين منهم، ودقة مواعيده والتزامه الشديد بالموعد، وعدم تهاونه مع من يتهاون في هذا الأمر، حتى أني أذكر أني تأخرت عنه دقيقتين في أحد مواعيدي معه، فما كان منه إلا أن قال: "لا تكرر ذلك مرةً أخرى إذا أردت أن أستمر معك".

أقول كل هذه الأمور جعلت صورته متفردة وخالدة وعبرة لمن خلفه من الأساتذة والطلاب.

رحمك الله أستاذنا العزيز الوفي للعلم وللمهنة، وللمدينة التي طالما عشقها عشقاً مضاعفاً، وأبى إلا أن يتوسَّد ثراها، وجزاك الله عنّا خير الجزاء، ومنحنا الصبر لتحمل مصابك، وأسكنك المثوى الذي تستحق لقاء سعيك الدؤوب في خدمة العلم والمعرفة.

 

www.omaraltaleb.com