الصفحة الرئيسية . موقع الدكتور عمر الطالب

 

 

 

 

 

 

الأستـاذ الدكتـور عمـر محمـد الطالـب يعري أنصاف المثقفين

 

 

الراحل الأستاذ الدكتور عمر محمد الطالب

 

بين الوهم والإيهام، والغفلة والاستغفال ينحرف الفكر عن المسار المرسوم لأهدافه الرامية إلى ترميم العلاقة بينه وبين العالم، ينحرف باتجاهات لا تفضي إلا إلى ظلام ومتاهة يتوهمهما المدمن عليهما ذروة ما يصل إليه الإبداع في مسيرة البناء الثقافي، فيسقط. في المقابل يشتد طرف آخر يلتزم المبدئية، ويواصل المسار الفكري السليم على وفق مفهوم شخصي أو عام للالتزام، لكن بصمت. ومن طرفي المعادلة تنشأ ثنائية الثقافة الزائلة والثقافة الباقية.
(الزمان) تلتقي أ.د. عمر محمد الطالب (قاص وروائي وناقد) أستاذ الأدب العربي بجامعة الموصل عبر حوار مطول حول هذا المحور الهام:


س
ـ بداية، هل من الصواب إطلاق صفتي (الزائل) و(الباقي) على الثقافة فالأدب وهما نتاجا فكر وتراكم تجارب؟! أم أنك ترى ضرورة البحث عن صفة (ثالثة)..
ج ـ
يمكن إطلاق صفتي (الزائل) و(الباقي) على الثقافة والأدب وان كانا نتاج فكر متراكم وتجارب عدة. إلا أن الاستعمال السائد في الأدب هو الأدب الخالد والأدب الذي ينتهي في جيله أو عصره أو فترته أو بالنسبة مذهبه الأدبي. وهناك من الأدب ما لا يشتهر في فترة ظهوره وإنما يأخذ مكانته المستحقة به بعد موت صاحبه بفترة من الزمن ومثال على ذلك مسرحيات شكسبير فهي لم تأخذ المكانة التي تستحقها في حياة شكسبير وجاءت مسرحيته الأخيرة (العاصفة) وهي في ظني أفضل مسرحيات شكسبير ترميز او رمزاً لحياة شكسبير نفسه وما لاقاه من عداء وإهمال وخيبة فخلق خياله هذه الجزيرة النائية في المحيط التي راح بطل المسرحية يستخدم فيها مخلوقات غريبة لحمايته وحماية أبنته. والابنة في المسرحية رمز لنتاجه الأدبي. حتى ينصاع أعداؤه له وتتزوج أبنته بابن عمها ويعودون إلى بلادهم التي هاجروا منها، وبعدها توقف شكسبير عن الكتابة وسكن داره في قرية (ستاتفورد) الذي هو متحف لشكسبير في الوقت الحاضر، ولم يعرف شكسبير إلا بعد خمس عشرة سنة من وفاته عندما طبعت مسرحياته وراح النقد يتناولها بإعزاز وتكريم حتى أن بعض هذه المسرحيات أخذت من الممثلين فجاء بعضها ناقصاً والبعض الآخر دون ما يكتبه شكسبير مثل (تيمون الأثيني) وهذا يدل على إهمال كتابات شكسبير في حياته وعندما فطن النقاد إلى قيمتها الكبيرة راحوا يجمعونها ويطبعونها ولما لم يجدوا الأصول التي كتبها شكسبير لجؤوا إلى الممثلين، والممثل لا يحفظ إلا دوره والذاكرة تحتفظ بالجديد وتنسي القديم، فبعد عقد ونصف من الزمان لم يكن الممثل قد استبقى في ذاكرته كل ما حفظه من دوره في المسرحية فغير وبدل وهكذا بدت هذه المسرحيات دون مستوي مسرحياته المتميزة مثل (هاملت والملك لير وعطيل وماكبث ويوليوس قيصر وانتوني وكيلوبطري) هذه المسرحيات التي خلدت شكسبير فضلاً عن (سوناتانه) الرائعة التي فاقت الشعر الإنكليزي بجمالها. وما زالت تعد من أفضل الشعر في العالم على العكس من (كافكا) الذي لم يعرف في حياته وقدم رواياته لصديق ناقد عنيّ بها وأظهرها للوجود وأصبح أسم كافكا علما من أعلام الرواية العالمية في رواياته (القصر والقضية والصرصار) وأمثلة على ذلك كثيرة فإذا كانت ملحمـة (كلكامش) قـد عرفت في القرن التاسع عشر بعد العثور على مكتبـة (آشور بانيبال) في (نينوي) وأخذت مكانتها من الشهرة فأنها عرفت منذ عهد السومريين والأكدين والبابليين والآشوريين إلا أنها نسيت من ذاكرة شعب وادي الرافدين حتى اكتشف المنقبون ألواح الملحمة فعادت إلى الذاكرة من جديد وانتشرت في جميع أنحاء العالم. في الوقت الذي ذاعت ملحمتا هوميروس (الالياذة) و(الأودسة) منذ ظهورهما عام 1200 ق.م. ومازالتا لحد الآن تعدان من أفضل الملاحم في العالم إلى جانب (المهابهارتا) الهندية و(الشاهنامة) الفارسية للفردوسي.


س ـ ألا تخضع المخطوطات حتى وان امتدت إلى عمق زمني يفترض أنه كان أكثر رصانة، أو حتى مخطوطات الرسائل الجامعية المبنية على أسس أكاديمية لثنائية الباقي والزائل التي نناقشها في هذا السياق؟
ج ـ
هنا يبرز سؤال يدور حول التحقيق والرسائل الجامعية في العراق مثلاً فقد انتشرت منذ عقود ثلاثة بان التحقيق يجب أن يشمل جميع المخطوطات، وحققت كتب لا قيمة لها تكدس فوقها الغبار على رفوف المكتبات. وأرى أن يشمل التحقيق الكتب التي تماشي روح العصر وتكون ذات فائدة لقرائها وهذا يحتاج إلى تشكيل لجان متخصصة ملمة بالتراث بأفرعه وأنواعه وتنتقي الكتب الصالحة للتحقيق وتهمل الكتب التي عفى عليها الزمن، وهذا ينطبق على الرسائل الجامعية التي تقوم على التحقيق أيضاً ولا يكفي أن يجد الطالب مخطوطة عن طريق الصدفة ويقدمها بعد التحقيق رسالة دكتوراه أو ماجستير فضلاً عن انتقاء ما يكتب عنه في الرسائل الجامعية، فقد كتبت في العقود الثلاثة الأخيرة في العراق رسائل في موضوعات أو عن شخصيات لم تقدم ما يستحق الكتابة عنه وأهملت موضوعات وشخصيات تستحق العناية لأنها لا تتماشى والخط العام، ومن هنا ظهرت المأساة الكبيرة في الدراسات العليا في العراق.

أما أولئك الذين أبدعوا في تقديم رسائل ممتازة أما هاجروا بحثاً عن الرزق أو حوربوا حرباً شعواء أقعدتهم عن الإنتاج المبدع الذين هم أهل له، وبرزت أسماء احتلت مكانة رفيعة لا لعلمها أو قدرتها بل لأسباب لا علاقة لها بالعلم والثقافة وانغمرت أسماء في بحر النسيان لها مكانتها وعلمها وثقافتها لأنها لم تسر في الخط المراد حتى تدهور التعليم ووصل إلى حالة يرثى لها لم يمر بها العراق حتى في الفترة المظلمة.
ويتصل الزوال والبقاء بالنسبة للعصور والأجيال أيضاً، فشعر المديح مثلاً كان الأكثر جزالة وجمالاً حورب في عصر صدر الإسلام وإذا كان ما يسمى بالشعر العذري قد لاقى رواجاً في العصر الإسلامي لم يلاقه الغزل الصريح فان ذلك يعود إلى عوامل دينية واجتماعية، اختلفت في العصور التي تلتها وانتهى ما يسمى بالشعر العذري في أوائل العصر الأموي بينما بقي الشعر الصريح ممتداً عبر العصور وأفضل مثال على ذلك شعر بشارد بن برد وأبي نواس والمتنبي والبارودي وشوقي والرصافي وبرز (نزار قباني) بشعره الصريح بروزا لم يلاقه شاعر عربي حديث آخر على الرغم من أن العصر الحالي فيه عشرات الشعراء من هم أقوى شعرا من نزار قباني.


س
ـ وإذا فان هذا الاستنتاج سيقودنا إلى سؤال آخر يختص بدور المذاهب الأدبية في تعميق الأدب أو تسطيحه؟
ج ـ
المذاهب الأدبية تؤثر حسب عصورها على الخلود أو الزوال فإذا امتدت الكلاسيكية القديمة والجديدة بين 1200 ق.م وحتى عصر التنوير في القرن الثامن عشر ، فان أعمالاً أدبية عديدة ظهرت في هذه القرون الطويلة إلا أن ما خلد منها محدود وعلى سبيل المثال لا الحصر المآسي والكوميديات اليونانية لسوفوكلس واسخلوس ويوربيدي وارستوفان وخطب ديموستين وفلسفة أفلاطون وأرسطو ولاسيما فن الشعر وفن الخطابة وكتاب السياسة. ولم يخلد من العصر الروماني إلا هوراس وفرجيل وشيشرون في الخطابة واوفيد وسنيكا. وفي عصر النهضة يوكاشيو في عمله القصصي (الديكامرون) ودانتي في (الكوميديا الإلهية) التي سخرت بالعديد من الشخصيات في عصره وكانت بداية قومية لظهور اللغات المحلية كالإيطالية والفرنسية والألمانية والإنكليزية و(لامارك) في الشعر.
وعلى الرغم من تأثر الأدب الغربي بالأدب العربي برز الأدب الغربي وشاع مثل أدب البيكارسك، المتأثر بالمقامة العربية وأدب (الرومانس) المتأثر بالغزل العذري (وشعر الرعاة) في أسبانيا المتأثر بالشعر العربي ولم يرفع قيمة (ألف ليلة وليلة) التي كانت تعد شؤماً على أهل الدار إذا بقي فيه هذا الكتاب وكنا نمنع من قراءتها حتى بداية الخمسينات من هذا القرن فقد رفع من قيمتها (يوكاشيو) الذي كتب (الديكامرون) على منوالها واسماها مئة ليلة وليلة وقال عنها فولتير بأنه قرأها ست عشرة مرة وتمنى لو ينساها ليقرأها من جديد وتأثر في روايته (زاديج) وأعلن (ستندال) إن ألف ليلة وليلة هي التي خلقت منه روائياً. وقرأها (فلوبير) كاتب روايتي (مدام بوفاري والحياة الطبيعة) أكثر من عشر مرات.

هكذا خلد الغرب ألف ليلة وليلة وهي واحدة من القصص الشعبي العربي خلدها الغرب وأفاد منها ونسيناها نحن وانشغلنا بالعراك في المقاهي عندما يروي الراوي (قصة عنترة وأبو زيد الهلالي والزناتي خليفة وعلي الزيبق والظاهر بيبرس).

ولم يشتهر (ميكافللي) بمسرحياته الجيدة. وكثير من المثقفين لا يعرفون بأنه كاتب مسرحي وإنما عرف بكتابه السياسي (الأمير). حتى أضحت كلمة الميكافيلية موازية لصفة الانتهازية.

وبعد شكسبير ظهرت الكلاسيكية الجديدة في القرن السابع عشر ولم يخلد فيها غير (كورني وراسين وموليير) وما زالت مسرحيات مولير تثير الضحك أينما عرضت في إرجاء المعمورة وإذا أنجب هذا القرن عدداً كبيراً من كتاب المسرحيات فان (رشيليو) وزير ملك فرنسا لويس الرابع عشر كان له مكتب خاص يجمع فيه من لديه القدرة على كتابة المسرحية وضم إليه (كورني) الذي سرعان ما انفصل عنه. لا نجد من يذكر كل أولئك المسرحيين.

وكان القرن الثامن عشر بحق عصر التنوير وعصر احترام حقوق الإنسان وظهر كتاب عديدون إلا أن من خلد لأنه كان عاملا هاما في قيام الثورة الفرنسية ثلاثة كتاب فقط (فولتير وروسو ومونتسكيو). ومع قيام الثورة الفرنسية عام 1879 بدأت الرومانتكية بالظهور لتغير طبيعة المجتمع وبرز فيها (فكتور هيجو وجوته وشيلر وستندال وروبسبيرميرميه) ومع ثورة 1850 وظهور الأفكار الاشتراكية (ماركس وانجلز) وكتاب (رأس المال) والاشتراكيين الطوباويين (سان سيمون وفوربيه ولويس بلان وروبرت أوني) ظهر المذهب الواقعي الذي برز فيه (بلزاك) والمذهب الطبيعي الذي برز فيه (أميل زولا) وتقدمها (فلوبير دموباسان).

وظهر على الضد منهما (البرناسيون) وأشعار (الكونت دليل)، خلد منهم بلزاك وفلوبير وموباسان والواقعيون الروس (بوشكين وجوجول وترجنيف وتولستوي ودستويفسكي وتشيخوف) ومع ظهور الواقعية الاشتراكية برز (مكيم غوركي) و(شلوخوف) في (الدون الهادئ) الذي حاز عليها جائزة نوبل و(مصير إنسان) بينما نسيت روايته (الأرض البكر حرثناها) لأنها من نوع الأدب الدعائي وبرز من كل الكتاب السوفيت (إيليا اهرنيرغ وباسترناك) ومع سقوط المعسكر الشرقي زال الأدب السوفيتي ولم يعد يثير اهتمام أحد لأنه كان أدباً دعائياً مفروضاً من قبل السلطة الحاكمة وهذا مصير كل أدب دعائي ينتهي ويزول بزوال فترته السياسية التي شجعته.
ولم تعش (الدادائية) أكثر من سنتين إبان الحرب العالمية الأولي على الرغم من أنها ضمت أفضل الأدباء والفنانين أمثال (اراغون) الشاعر و(بيكاسو) الرسام و(بريتون) الأديب واحتوتها (السريالية) التي ضمت أدباء وفناني الدادائية وأضافت عليهم أسلوب التداعي في الرواية وابتدع (مارسيل بروست) أسلوب التداعي في روايته (البحث عن الزمن الضائع) وفاقه جيمس جويس في رواياته (حياة الفنان في شبابة وعوليس وفينيجاتر ويك )، وفرجينيا وولف في روايتها (الفنار والأمواج ومسز دولاي) وتبعتها مذاهب عدة أبقت كتبهم خالدة مثل الوجودية وأعمال جان بول سارتر والعبثية وأعمال البير كامو واللامعقول وأعمال (ببكيت ويوجين يونسكو) والرواية الجديدة وأعمال (نتالي ساروت وروب جريية وميشيل بوتور) والواقعية الجديدة بدءاً من دوس باسوس وامتدادا إلى شتاينك وهمنغواي وفوكنر ومسرحيات تتسي وليامز وارثر ميلر وغيرهما.
لقد خلدت المذاهب الأدبية وتطورها هذه الأعمال، وعندما انتهت بعض هذه المذاهب زالت أكثر أدبياتها وبقيت الروائع منها ومن المذاهب من بقيت روائعها الخالدات كانت في الفترة التي ازدهرت بها فبقيت أدبياتها خالدة.


س
ـ قُلنا في الثمانينات والتسعينات أن كماً كبيراً من النتاج الثقافي والأدبي في العراق يحمل في داخله معاول هدمه.. كيف تعالج تصريحاً كهذا؟
ج ـ
إن ما قيل صحيح كل الصحة فان كماً من النتاج الثقافي والأدبي حمل في داخله معاول هدمه في عقدي الثمانينات والتسعينات ويعود السبب في ذلك إلى الحرب العراقية الإيرانية التي استمرت ثماني سنوات وكانت سبباً في إنتاج كم هائل من الروايات والقصص والأشعار التي كتبتها أقلام لا علاقة لها بالأدب لا من قريب ولا من بعيد وقامت وزارة الثقافة والأعلام في وقتها بطبعها دون الالتفات إلى مستواها الفني لأن الهدف الأساس من نشرها هو الأدب التحريضي الدعائي دون الالتفات إلى مستوى السرد أو المعالجة للموضوع.
فلو حاولنا أن نقوم بدراسة جميع الروايات التي صدرت في تلك الفترة من الحرب لوجدناها فضلاً عن غزارتها بحيث تعادل كل ما كتب من روايات في العراق منذ عام 1919 حيث ظهرت (الرواية الايقاظية) لسليمان فيضي الموصلي والتي عدها بعض النقاد رواية والبعض الآخر مسرحية وأعددتها (مسرواية) في كتابي (الرواية العربية في العراق) الصادر عام 1971 لأن الجزء الأول منها يقوم على الحوار التعليمي ويعتمد الجزء الثاني على السرد وحتى ظهور أول رواية عن الحرب لعادل عبد الجبار (الرقص على أكتاف الموت) نجد ان ما صدر في العراق خلال السنوات الثمان يعادل ما نشر في ست عقود، فضلاً عن تشابهها فإذا قرأت رواية واحدة منها أغنتك عن قراءة الروايات الأخرى، فجميع الشخصيات من قوميات ومذاهب وأديان موجودة في العراق على اختلافها وجلهم من أهل القرى (الهرقليين) مشتاق إلى زوجته أو حبيبته، ولكنهم خلف الساتر في الجبهة يحصدون الأعداء حصداً كما يحصدون سنابل القمح في حقولهم وتأتي النهاية بالانتصار وهزيمة الأعداء والاستيلاء على مواقع جديدة وتمتلئ صدور المقاتلين بالأوسمة والنياشين وقليل منهم ينال الشهادة السعيدة ويحظى أهله بالعطاء من قبل السلطة والأرض والسيارة والعطايا ومجالس العزاء الفخمة التي تصرف عليها الدولة. وليس الأمر قاصراً على الرواية التي أخذت الحصة الأكبر في تلك الفترة بل تعدتها إلى القصة والشعر.

إن الأدب الدعائي التحريضي بقدر ما هو مفيد إذا كان أدباً إنسانياً كما نجد في رائعة شولوخوف (الدون الهادئ) ورائعتي همنغواي (وداعاً للسلاح ولمن تقرع الأجراس) ورائعة باسترناك (دكتور زيفاكو) وروائع ريماك ولاسيما روايته (كل شيء هادئ في الجبهة الغربية) ورائعته الأخرى (وقت للحرب ووقت للحب) وجدنا أن أدب الحرب العراقي خال من السمة الإنسانية وملئ بالمواقف (الدونكشوتية) وقد سمعت المسؤول عن دار الشؤون الثقافية في العراق في مجلس أدبي أقيم تكريماُ لزيارته الرباط عام 1987 (إن روايات الحرب سببت لنا خسائر كبيرة لذا نقدمها هدايا للوفود القادمة إلى العراق في المناسبات أو المهرجانات ولاسيما مهرجان المربد وإن إحدى الروايات لم يبع منها غير رواية واحدة). ووجدت مكتبة قديمة في الرباط مليئة بالكتب العراقية في الثمانينات باعها من أهديت إليهم بثمن بخس لهذه المكتبة التي كانت تبيع بدورها هذه الكتب بثمن بخس.
ويمكن أن نستثني القليل جداً من الروايات والقصص القصيرة والقصائد الشعرية ولا أريد أن أضرب أمثلة على ذلك لندرتها. وما أن تنفس العراقيون الصعداء بعد انتهاء الحرب عام 1988 حتى كان الاجتياح العراقي للكويت عام 1990 وظهرت كتابات لتمجيد هذا الاجتياح وان لم يظهر في بادئ الأمر إلا روايات قليلة حتى أصدرت وزارة الثقافة والأعلام للمثقفين أن يكتبوا عن (أم المعارك) فتدافع الكتاب الانتهازيون إلى كتابة الروايات الدعائية الساقطة من الناحية الفنية وصدرت دواوين شعرية لا يعرف ناظموها تركيب جملة صحيحة وأجزل العطاء لمن يقدم مثل هذا الأدب في مدح الذي تضمه ومنح شعراء لم يحلموا بنشر قصيدة الملايين من الدنانير ودور السكن والوظائف الرفيعة والتسلط على رقاب المثقفين الذين لم يرضوا لأنفسهم النزول إلى هذا الدرك، وكتبوا وضموا ما كتبوه لينشر في يوم يتخلص فيه العراق من أنصاف الأدباء، وحثالات المثقفين الساديين الذين لا يعرفون غير الوشاية والتجسس والسرقة والتهريب والحصول على مناصب لا يستحقونها وهو ما أدى بتدهور الثقافة في العراق خلال عقدي الثمانينات والتسعينات أن جعل غير الأدباء أدباءً رغماً عن الجميع وهروب الأدباء الحقيقيين من العراق وهجرة المثقفين إلى الخارج وسيطرة السلطة والعقاب الذي يصل إلى حد الموت عند نشر كلمة لا ترغب السلطة في نشرها وتشجيع شعر المديح الانتهازي وفرض موضوعات معينة على من تبقي من الكتاب داخل العراق وإذلال من لا يستجيب لهم من الأدباء والمثقفين وفصلهم من وظائفهم ولصق تهم بهم هم براء منها كل ذلك أدى إلى أن يحمل أدب وثقافة ما أنتج في الثمانينات والتسعينات بذور موته في داخله لأنه أدب تكتبه أنامل غير متمرسة على الكتابة وغير صادرة عن عقل واع وعاطفة صادقة أو حباً بالإنسان وانعدام الأدب الإنساني ليحل محله أدب شوفيني انتهازي وصولي يكره الصدق ويؤمن بالكذب والدجل لذا أسميته
أدب الدجل في إحدى مخطوطاتي التي ما زالت تنتظر لتظهر للناس معلنة الأدب الصادر من القلب آنذاك وهناك العديد من المخطوطات التي تنتظر لتصبح كتباً، لم يجرؤوا على نشر كتبهم وأدبهم لأنها لا تتماشى والخط العام فهم غير قادرين على نشرها في الداخل لمنع الرقابة لها ولا في الخارج لأنهم يخشون على أنفسهم من الاغتيال أو التنكيل بأهلهم، ففي مثل هذه الظروف يستحيل ظهور أدب إنساني حقيقي وهكذا أضحت أطنان الورق المطبوعة في العقدين الماضيين لا تصلح إلا للف (السندويشات) والمشتريات أو صنع الأكياس، وأثرت أثرا سلبياً كبيراً على القارئ العراقي الذي كان أكثر العرب شغفاً بالقراءة حتى قيل أن مصر تكتب ولبنان تطبع والعراق يقرأ، هذا ما كان قبل الثمانينات أما الآن فلا تجد أحداً يقتني كتاباً إما لرداءة الكتب أو لأنه لا يملك نقوداً يشتري بها كتاباً مهماً رخص ثمنه فملء البطن (بالعلف الحيواني) الذي كان يوزع بالحصة التموينية لإقامة أود العراقيين كي لا يموتوا جوعاً، أولى من شراء كتاب أو البحث عن الثقافة عند العراقي المهان بالذل والجوع والتضخم وبناء القصور وتوزيع السيارات الفارهة على من ينال رضى السلطة وتبديد ثروة العراق الضخمة للعملاء والانتهازيين ممن يزورون العراق من خارجه ويحصلون على عقود بترول ليعيشوا برفاه ونعيم على حساب الشعب الجائع الذي تناوبته الأمراض والمهانة والذل من كل جانب.


س
ـ هل يمكن في خضم التحولات التي يمر بها العراق أن نحدد سلفاً ملامح متعافية لثقافة مقبلـة؟
ج ـ
إن جراح المثقفين العراقيين الحقيقيين عميقة وتحتاج إلى الأمان والاستقرار وتحسين مستوى المعيشة والرواتب وتشغيل العاطلين.

في العراق عدد كبير المثقفين والأدباء الذين كابدوا صمتهم إلى اليوم وأخفوا ما كتبوه في السنوات العصيبة التي مرت بهم بصدق وإخلاص. إنها بحاجة إلى الظهور سواء طبعت في العراق من قبل وزارة الثقافة أم في الخارج حيث تتبناها شركات نشر مخلصة.

إن الأمل كبير في ظهور الأدب الحقيقي الذي اختفي مدة ثلاثة عقود ونصف ليطغي عليه أدب الدجل والكذب والخديعة والدعاية والتشويه للحقيقة المعاشة، فمتى يقوى العراق على رفع ركام التخلف ليعيد للجامعات مكانتها التي كانت عليها وللمثقف العراقي حقيقة رؤاه وللأديب الحقيقي المكانة التي يستحقها وللأدب الحقيقي الخروج من الجرارات المخزونة فيها.
إن الأمل قائم في أن يعود الأدب العراقي إلى مكانه والثقافة في العراق إلى ازدهارها عندما يستعيد العراق قواه الخائرة ويتكاتف المثقفون والأدباء الحقيقيون من أجل بناء عراق جديد مثقف يشع أدبه على العالم إنسانية وثقة وإخلاصا.

 

نقلا عن جريدة (الزمان) --- العدد 1772 --- التاريخ 1 / 4 / 2004

أجرى الحوار بشار عبد الله